شهادات عائليّة
غجري الرّوح
بقلم: عليّ فرزات
عائلتنا نحن بيت فرزات مؤلّفة من أفكار ومواقف ومبادئ وأحبار وألوان وفراشٍ وأقلام، والحياة لدينا ورق وصفحات؛ نزيّنها بالأحرف والخطوط، ونطرّزها بالمشاعر والأحلام والأمانيّ، ونوقّعها بالالتزام والشّجاعة والإقدام، ننسى المخاطر، ونبدأ من أوّل السّطر.
عدنان أخي أصغرنا بالأسرة، جمع الفنّ والحرف، وأتقن النّحت، وأبدع في الكتابة، وكان يحوّل الصّورة إلى جملة، ويضيف إليها خيال الفنّان، ويصوّر الفكرة بالقلم، ويعبّر عنها، كما لو أنّه يرسم لوحة، فيتماهى الفنّ لديه في الرّواية، وفوق سطح اللّوحة، ما كنت أميّزه في عدنان أنّه لم يتصنّع الكتابة، ولكنّه لم يكن يرتجلها، أراه في جلساتنا مرحًا تارةً، ومنفعلًا تارة أخرى، وتشدّه العصبيّة حين يأتي ذكر السّيئ الذّكر المعتوه السّفّاح الّذي كان قد أصدر أمرًا باعتقاله فور مجيئه إلى سورية، كما بقيّة أسرة آل فرزات، كان عدنان غجريّ الرّوح، لكنّه كان يروّضها حين يقتضي الأمر، لم يكن أخي فقط بل أيضًا صديقي، نمرح نضحك، ننفعل، نتناقش، نتّفق، نختلف، تمامًا كما فصول السّنة الّتي تزهر بالحياة.
عدنان فرزات.. تلويحة وداع متأخّرة
***
رفيق عمري الّذي غاب
بقلم: أسعد فرزات
سأبدأ عن عدنان من مشهد يسكن ذاكرتي يصعب نسيانه، عندما بدأت الانتفاضة الأولى على نظام حافظ الأسد في الثّمانينيّات بعد مجزرة حماة، كان عدنان في المرحلة الثّانويّة، دخل البيت مسرعًا رمى كتبه، وناداني: “أبو السّعود الحقني ع المظاهرة”، وخرجت معه مسرعًا، وقتها نادت أمّي بأعلى صوتها: “مشان الله ارجعوا لا تموتوا” ذاك المشهد يستحيل أن يُمحى من ذاكرتي.. تلك اللّحظة الشّرارة الّتي اشتعلت في روحه غضبًا وانتماء ورفضًا.
أنا وعدنان ننتمي لأسرة فنّيّة، أغلب أفرداها يمتهنون الرّسم، ويهتمّون بالفنّ، عدنان بالضّرورة كان له محاولات عديدة في هذا المجال، حتّى في فنّ الكاريكاتير، وقد نشر رسومًا عديدة، منها بجريدة: (الجماهير) بحلب، عندما كان طالبًا بكلّيّة الحقوق هناك، إلى جانب مقالاته الصّحفيّة في الجريدة، هكذا كانت بدايته.. إلّا أنّه غرّد خارج سرب العائلة، واتّجه لكتابة الشّعر والقصّة، وكانت بداياته في هذا المجال في جريدة: (الأسبوع الأدبيّ) أواخر الثّمانينيّات، وجريدة: (الثّورة)، ثمّ انتقل بعدها للعمل الصّحفيّ في دولة الكويت.
بعدها أسرته الرّواية، وأصبح من الكتّاب المهمّين في هذا المجال، ونشر رواياتٍ عديدة، منها ما نال شهرة واسعة كرواية: (تحت المعطف) والرّواية السّياسيّة: (جمر النّكايات)، وهي تتحدّث عن شخصيّة واقعيّة في دير الزّور لامرأة متعلّمة تعمل مديرة مدرسة.. تمّ تصفية ابنها على أيدي المخابرات، ثمّ ألقوه جثّة هامدة أمام منزلها، ما تسبّب بخلل في عقلها، حيث تركت عملها، وانزوت أمام جدار منزلها، تنتظر ابنها؛ لأنّها لم تصدق ما جرى، إضافة الى شقيقته الّتي فقدت عقلها بالكامل.. هدايات -هكذا اسم بطلة الرّواية- تتقّدم لترشّح نفسها لدورة مجلس الشّعب، هنا جماهير دير الزّور كافّة تتعاطف معها، وكأنّ التّعاطف هو رسالة وردّة فعل تجاه النّظام، هدايات نجحت بجمع الأصوات الّتي تخوّلها دخول المجلس.. لكن النّظام منعها من ذلك!
مع بداية الثّورة، وبحكم عمل عدنان كمسؤول إعلاميّ بمؤسّسة البابطين ومدير قناتها المرئيّة، إضافة أيضًا إلى سكرتير تحرير مجلّة: (البيان) الّتي يصدرها اتّحاد كتّاب وأدباء الكويت، وجريدة: (القبس) الكويتيّة سابقًا، تلقّى عروضًا عديدة للانتساب الى أحزاب سياسيّة معارضة ومؤسّسات مثل المجلس الوطنيّ والائتلاف، إلخ، لكنّه رفض إلّا أن يساعد أبناء الثّورة، وهو في الظّلّ، علمت بذلك بعد وفاته من خلال الاتّصال من عائلات بعض أبنائها كانوا قد انخرطوا بالجيش الحرّ، وأغلبهم من مدينة دير الزّور، لقد أبدوا حزنًا شديدًا على رحيله من خلال مواساتهم لي برحيله.. تربطني بعدنان علاقة مميّزة عن باقي أفراد أسرتي؛ بسبب أنّه الأقرب إلى عمري، فكان الأخ والصّديق، جمعنا عمل واحد يومًا ما بمجال الصّحافة، كان عاشقًا لعمله، وكنت أراه أحيانًا في المطبعة ينتظر صدور عدد من جريدة: (الدّومري)، كمن ينتظر مولودًا جديدًا، عدنان رفيق عمري الّذي غاب فجأة، ما زال حيًّا ينبض في ذاكرتي حقيقة.
***
أبي عدنان فرزات
عمر فرزات
“الغربة تجعل قلوبنا رقيقة كنسيج عتيق، تتسرّب منه المياه بسهولة، لا حصانة لمشاعرنا في الغربة، يهزمنا الوهم، وتمتزج الأوطان بالنّاس الّذين نلتقيهم من أوطاننا، فقد نحبّ فيهم الوطن”، تساءلت يوماً عن المشاعر الّتي ذرفت من قلم والدي عندما نسج هذه العبارات، لم أكن أعي تداعيات الغربة الّتي سكنت قلبه، كنت أظنّ أنّ الإنسان قد يجد الأوطان أينما وجد الطّمأنينة، لكنّه كلّما استذكر حماة ودير الزّور الّذي سكن فيهما، ثمّ فاضت عيناه بالحنين، استشعرت قيمة الفراغ في قلبه.
عدنان هو الجذع الّذي لا يميل، ولا يهزّه هبوب الأيّام العصيبة، فمنذ أن تفتّحت عواطفي على هذه الدّنيا، وأنا ألمحه يحارب قساوة الكون بالكلمة، لطالما أحبّ أيلول، وتغنّى به، فهو الشّهر الّذي صادف مولده ورحيله، وكأنّه كان يشعر بأنّه أحد أوراق الخريف الّتي لن تُؤثِر هذه الحياة، لكنّه كجماليّة الخريف ورائحة الأرصفة الممزوجة بأوراق الشّجر والذّكريات كان يعدنا بالرّحيل بالمبكّر.
عدنان لسان البسطاء، هو الكاتب الّذي روى عمّن ألجم الفقر والحروب أفواههم، من حملوا على عاتقهم الأغنياء نحو المناصب، ومن يعودون إلى منازلهم بأيدٍ خاوية، لأطفال أكل الجوع بطونهم، لكنّهم يؤمنون بالحياة والحرّيّة.
أبي وقد كان الصّديق والأخ الأكبر لي، فقد كان يكره أن أناديه والدي، وإذا ما خرجنا لنحتسي القهوة معًا، عرّف عنّي لأصدقائه بأنّي أخوه الأصغر، كان الرّجل المعطاء الّذي لا يبخل بالفعل أو القول، تجده الدّاعم والنّاصح والحضن الحنون إذا ما تداعت الحياة على ولده، كان حضوره خفيفًا كنسمة، يظلّ متفائلًا ومبتسمًا، يخلد إلى النّوم، ويستيقظ في وقت قصير، ليعود إلى الحياة الّتي لطالما أحبّ أن يعيشها، كان مُجدًّا وطموحًا معتمداً على نفسه، شقّ طريقه منذ نعومة أظفاره برغم ظروفه القاسية، آمن بنفسه كثيراً، وأحبّها، وبرغم تميّزه كان متواضعًا كنجمة في فضاءٍ واسع، وهذا ما جعل الجميع مقرّبًا إليه ومحبًّا.
آمن بي منذ طفولتي، وكان فرحاً وفخورًا بي كمن يزرع وردة في منتصف صحراء، أبي الصّديق الّذي كان يراقب المشيب، وهو يغزو شعره، ثمّ يعاند المرآة والحياة بعنفوانه، لن تغيب عن ذاكرتي ما حييت، وبقدر ما آمنت بي، فقد رسمت لي درجات النّجاح في كلّ خطوة أستهلّها.
(نُشرت في ملف العدد 1922 من الأسبوع الأدبي)
(رابط العدد 1922 من الأسبوع الأدبي https://awu.sy/?p=71755 )