في لحظات الغربة الموحشة، لا يهبط على القلب أثمن من رفيق يشبه الوطن. وفي غربتنا الطويلة في تركيا كان الأخ والصديق أيمن ناصر صديق الحرف واللون، وصوت الحكاية الصافية.
أكثر من مجرد صديق، بل كان دفء المكان، وأُنس الوقت، وعطر الذكرى.
أيمن ناصر المؤسس الحقيقي لملتقى الأدباء في ولاية أورفا ذاك الحلم الذي جعله واقعًا ليجمع فيه الشتات على طاولة واحدة ويمنح للمبدعين مساحة للتنفس وسط الغبار والخذلان.
من منا لا يؤمن بأن رحيل أيمن… هو غياب الضوء عن المشهد الأدبي والثقافي برمته في ولاية أورفا التركية؟
لم يكن أيمن مجرد اسم في سجلّ الأدباء أو الفنانين التشكيليين، بل كان روح المشهد الثقافي وقلبه النابض، وظلّه الذي لا يتعب رجلٌ حمل قنديل الحرف في عتمة الغربة، وسعى بإصرار لا يُقاس ليُضيء بها ليالي أورفا بالشعر والفن والحياة.
بخطواته المتعبة، وصوته الخافت أحيانًا، لكن بإرادة لا تخذل، كان يصل الليل بالنهار يُخطّط، يُنسّق، يُحضّر يتابع… لا لشيء إلا ليمنحنا مساحة نَفَس في منفى ضاق بنا وبأحلامنا.
احتفلنا معه بتوقيع روايته الأولى (روجين) التي هزّت مشاعر القرّاء، ثم جاءت (اللحاف)، قطعة دافئة من وجعه الشخصي، ومن وجعنا المشترك، فغدت كلتاهما شهادة على عذوبة قلمه وصدقه الفني، وكان لدينا قناعة أن المهرجان والندوة والأمسية لا تكتمل إلا ببصمته اللطيفة، وابتسامته التي تخفي تعبه ومرضه.
أيمن، الذي كان حنونًا، نشيطًا، شفافًا، قاوم المرض بصمت النبلاء، وواصل العطاء حتى حين خذله جسده… ثم غاب. ومع غيابه، لم يغِب شخصًا فقط بل سقطت آخر أعمدة المشهد الثقافي في أورفا.
نفتقدك لا ككاتب أو فنان فقط، بل كأخ، كرفيق، كنبضِ معنى.
رحل صاحب الروايات التي كتبها من عمق الألم السوري، والفنّان الذي سكَب غربته على لوحاته كأنّه يلوّن جدران المنفى بحنينٍ لا يهدأ، كلما مرت ذكرى رحيله لا نستطيع أن نرثي غيابه فقط بل نرثي جزءًا من أنفسنا فَقَدناه معه.
فقد كان لمن عرفه تجسيدًا نادرًا للثقافة المتواضعة وللوجع النبيل وللبساطة التي تصنع الفرق دون ضجيج.
نم قرير العين يا صديق الغربة، فذكراك باقية في أرواحنا، وفي سطور الأدب، وفي ظلال الريشة، وفي كل لقاء جمعنا بك في ليالي أورفا التي صارت أكثر وحدة بعدك. فما بالك حين غادرنا تلك البلاد وكنت تتوق لمرافقتنا أرض الوطن بعد التحرير.
أيا تراب أورفا كن رقيقًا على أجساد من تركناهم وأحببناهم.
عدنا نحمل في قلوبنا وجع الغربة وأنت ما زلت هناك، تحت تراب ليس ترابنا، بين أسماء لا تنطق وجعنا.. عدنا نُقبّل أرض الوطن… ونحن نحمل صدى رواياتك وضجيج ضحكاتك وألوان ريشتك البهيجة.
عذرًا منك لأننا لم تُقَم على روحك جنازة بلون الياسمين الدمشقي. وأن العودة من دونك ناقصة، باردة، خرساء. كما هي من دون باقي الأحبة
سلامٌ على قبوركم البعيدة،
سلامٌ على وجوهكم التي غابت قبل أن ترى الضوء في الوطن،
سلامٌ على من مات وفي قلبه وصية: ادفنوني هناك… إذا رجعنا.
نحن رجعنا… وأنتم الوطن الباقي في غربتكم.
أيمن ناصر.. سلامٌ عليك في الغياب، وذكرى لا تبهت في القلوب، لك الرحمة، ولنا الوفاء.
