محمّد منصور
جاء عدنان فرزات إلى الحياة محمّلًا بقدريّة انتماءاته لمدن تحمل وجعًا تاريخيًّا تفاقم في عهد الأسدين، من حماة حيث ولد في العام نفسه الّذي شهد أوّل انتفاضة للمدينة على الحكم البعثيّ عام 1964م، وحيث شبّ على وقع مجزرتها الكبرى لاحقًا… إلى دير الزّور حيث عاشت الأسرة سنوات بحكم عمل الوالد هناك، وحيث شهد وجع الفرات وقيظ المدينة المملوءة بعنفوان أهلها وقهرهم، إلى حلب حيث درس في كلّيّة الحقوق في ثمانينيّات القرن العشرين، حين بدأت مواجهات عاصمة الشّمال مع الطّغمة الحاكمة، وامتدّت؛ لتبلغ ذروتها من خلال الاعتقالات والتّصفيات ومجازر المشارقة وبستان القصر وسواهما، كان عدنان فرزات شاهدًا على وجع جغرافيا القهر، مملوءًا بخزّان مواهبه المتعدّدة ما بين النّحت والرّسم والكتابة… وبضمير الفنّان والأديب المرهف الّذي يرى نفسه في صفّ النّاس البسطاء، بينهم ومنهم… فكيف يمكن لعدنان فرزات ألّا يكون معارضًا ومنحازاً في أدبه وفنّه وممارسته للصّحافة، وقد تشرّب هذا كلّه مسكونًا بمرارة الحياة وحلاوتها، وقلق الإبداع وتمرّده؟
تحدّث عدنان فرزات في أحد حواراته الصّحفيّة عن معاناته مع الفقر كطالب جامعيّ في كلّيّة الحقوق بجامعة حلب، لم يكفِه عمله إلى جانب الدّراسة؛ لأنّ يعيش الحدّ الأدنى من الحياة المكتفية، ولا نقول الكريمة، فقال: “عشتُ أيّامًا بائسة كنت أمضي يومًا كاملًا على وجبة واحدة، أو ربّما سندويشة، ولم أكن أملك دثارًا في برد حلب المعروف بقسوته، فأضطرّ للنّوم بثيابي الشّتويّة الّتي أذهب فيها إلى الجامعة، والعمل البسيط الّذي لا يسدّ فاقتي، وكنت أسكن في غرفة أرى فيها الجرذان تجري من أمامي، وظللت أكافح، وأعمل ليل نهار”.
تكفي هذه الشّهادة لتضيء لنا على عالم عدنان فرزات الإبداعيّ كلّه، فقد ترك هذا الفقر الأسود بصماته العميقة على رؤيته للعالم… وفي رواياته السّتّة الّتي نشرها، قبل رحيله المفاجئ في خريف عام 2020م، نرى العديد من شخصيّاته تعاني آلام الحياة نفسها، ونلمس في شغاف السّرد صدق التّجربة والمعاناة، وقدرته على النّفاذ إلى انفعالات وحالات وقائع محفورة في ذاكرة واقع مرير لم ينسَه يوماً، كما لم ينسَ أولئك النّاس البسطاء الّذين صادفهم في تلك البيئات… وهو ما عبّر عنه في أحد حواراته: “لم أنسَ النّاس البسطاء في رواياتي وكتاباتي، أنا لسانهم وقلمهم الّذي يتحدّث عن معاناتهم، وقلمي يكتب لهم”.
استوقفتني في مسيرة عدنان الرّوائيّة روايته الأولى: (جمر النّكايات) الّتي نشرها عام 2010م، ثمّ صدرت بعد ذلك في طبعات متعدّدة، جاءت الرّواية مواجهة مفتوحة بين نموذج نسائيّ لأمّ تفقد ولدها، تصارع القمع والفقر والوجع والجنون في بيئة من المدمنين واللّصوص وكشّاشي الحمام في حيّ شعبيّ في مدينة دير الزّور، تتحطّم لكنّها لا تنهزم، ومن قلب ذلك الحطام تتابع مسيرة حياتها؛ لتطرق أبواب مجلس الشّعب كمرشّحة تكسب أصوات النّاس بشرف، وتخسر أمام سلطة استبداديّة غاشمة بشرف، يغرق عدنان فرزات في تلك الرّواية في تصوير ألاعيب العمليّة الانتخابيّة وطقوسها وآثامها في عهد الأسد، لكن من قلب هذا كلّه يخرج صوت النّاس موحّدًا نقيًّا؛ ليتحدّى الفساد والتّزوير وسرقة الأصوات… لكن عدنان يقول لنا في النّهاية: إنّ صوت النّاس الحقيقيّ لا يمكن أن يحسم المسألة في نظام غارق في الفساد، صوتهم يعرّي الواقع، لكنّه لا ينصر، والهزيمة تقول كلمتها الأخيرة بموت البطلة، وموت الحلم معاً.
ما بين جريدة: (الجماهير) المحلّيّة في حلب حيث كانت بداياته الأولى، وجريدة: (الدّومري) حيث كانت محطّته الأجدى كرئيس تحرير، ثمّ: (القبس) الكويتيّة، ومجلة: (البيان) الثّقافيّة، تنقّل عدنان فرزات؛ ليصنع صحافة كان يشعر بالولاء الحقيقيّ لها، الولاء للنّاس وصوتهم، وللمهنة وأصولها، والأدب والثّقافة وأسئلتها… ومن رحم هذا العمل الصّحفيّ انتقل؛ ليصنع صحافة مرئيّة تروي الحكاية بكلّ أبعادها، فكانت أفلامه الوثائقيّة الّتي أنتجها تلفزيون الكويت، وحصد جائزة ذهبيّة عن أحدها: (ما ينهز الفنجان) في مهرجان تونس للتّلفزيون العربيّ عام 2015م… فكان عدنان فرزات متعدّد المواهب في عمله الصّحفيّ، كما في كتاباته الأدبيّة الّتي بدأها شاعرًا أواخر ثمانينيّات القرن العشرين، قبل أن يختمها روائيًّا حين أيقن أنّ الرّواية هي ديوان العصر، وهي فنّ التقاط التّفاصيل الّتي لا تنسى كي تبقى، وتكتب.
وبرغم أنّ روايته: (تحت المعطف) الّتي صدرت عام 2015م والّتي تتناول عالم المرأة المهاجرة؛ متابعًا فيها قصّة حقيقيّة لامرأة تعرّف عليها، قد ترجمت إلى الإنكليزيّة على يد البروفيسور ميشيل متياس، إلّا أنّ عدنان فرزات بقي مجهولًا كروائيّ في وطنه، فلم يكن ينتمي لشلّة أو حزب أو وسط ثقافيّ مصلحيّ، يتبادل كتّابه المنافع والأعطيات والأنخاب، كان عدنان ينتمي لقضيّته في أن يكون كاتبًا معبّرًا عن ذاته أوّلًا، وعن قهر وأوجاع النّاس البسطاء..
رحل عدنان في شهر أيلول الّذي شهد ميلاده ممسكًا بجمر البدايات والنّهايات، فقد عاش اضطرابات سوريّة وأوجاعها، كما أمسك بجمر ثورتها الّتي اشتعلت 14 ربيعًا ملتهبًا، قبل أن تسقط الطّغاة، وتذروهم قاعاً صفصفاً، ثمّ ترميهم إلى صقيع المنافي الّتي دفعوا السّوريّين للجوء إليها سنوات طويلة.
وربّما كان الملفّ، الّذي تخصّصه له: (الأسبوع الأدبيّ) مشكورة، محاولة للتّذكير بصوت أدبيّ حقيقيّ، يستحقّ أن يقرأ، ويحتفى به داخل وطنه… بعد أن ظفر هذا الوطن بحرّيّته وثمرة كفاحه الطّويل… فراح يستعيد أصوات أبنائه الحقيقيّين… في زمن الحقيقة الّتي تبقى، وتنفع النّاس، بعد أن ذهب الزّبد هباء.
(نُشر في ملف العدد 1922 من الأسبوع الأدبي)
(رابط العدد 1922 من الأسبوع الأدبي https://awu.sy/?p=71755 )