تغريد بو مرعي – لبنان – البرازيل
الضحك ظاهرة إنسانية عابرة للثقافات والأزمنة، تكاد تكون لغة مشتركة بين البشر جميعًا، على اختلاف أعراقهم ومعتقداتهم وتجاربهم، لا يمكن لأي مجتمع أن ينفصل عن هذه الطاقة التي تثيرها المفارقة أو المفاجأة أو التكرار، فهي أشبه بمرآة للوعي الإنساني وانعكاس لتفاعلاته مع العالم الخارجي، منذ القدم شغل الضحك بال الفلاسفة والمفكرين، ليس لأنه مجرد فعل عابر للترفيه، وإنما لكونه يحمل في طياته أبعادًا اجتماعية ونفسية وأخلاقية وفلسفية معقدة. فهو في آن واحد متعة وتسلية وأداة للانتقاد والتهكم، وسلاح قد يجرح أو وسيلة قد تصلح وتقوم.
يرى أرسطو أن الضحك سمة إنسانية بامتياز، فالإنسان وحده الكائن الذي يضحك، هذا التحديد يفتح الباب أمام فهم الضحك كميزة فارقة في مسار الإنسان الوجودي، في كتابه عن الشعر والكوميديا، تناول الضحك كونه نتيجة إدراك النقص أو القبح في أفعال الآخرين أو صفاتهم، غير أنه نقص لا يبلغ درجة الألم أو الإيذاء الجسدي، بل يظل في مساحة التسلية، وهنا يتجلى الطابع المزدوج للضحك، إذ يمكن أن يكون نقدًا لاذعًا لسلوك خاطئ وفي الوقت نفسه مصدرًا للمتعة.
الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون تناول الظاهرة في كتابه الشهير «الضحك»، حيث عدّها نتاجًا لجمود الحياة، إذ إننا نضحك عندما نرى الآلي في السلوك الإنساني، عندما يتحول الإنسان إلى مكرر للحركات أو الأقوال من دون وعي أو حيوية، الضحك لديه عقاب اجتماعي يفرضه المجتمع على من يتصرف بطريقة ميكانيكية أو خارجة عن سياق الحيوية الإنسانية، وهذا يعني أن الضحك ليس عبثًا، بل هو أداة إصلاحية تجبر الأفراد على الانتباه إلى سلوكهم وتصرفاتهم حتى يظلوا متناغمين مع محيطهم.
تطرق توماس هوبز إلى الضحك من زاوية مختلفة، فقد ربطه بالشعور بالتفوق، فالإنسان يضحك عندما يدرك فجأة عجز غيره أو نقصه، فيتولد لديه إحساس بالتفوق على الآخر، وهذا التفسير يكشف البعد العدائي أحيانًا في الضحك، حيث يتحول إلى وسيلة لإظهار الهيمنة والسخرية من الآخر، وهنا تكمن خطورة الضحك الذي يتخذ شكل السخرية الجارحة، إذ قد يخلق عداوات بين الأفراد أو يرسخ مشاعر الإقصاء.
أما سيغموند فرويد فقد تناول الضحك من منظور التحليل النفسي، حيث رآه تعبيرًا عن انطلاق طاقة مكبوتة أو رغبة كانت ممنوعة. النكتة أو المفارقة تتيح للإنسان أن يطلق ما كان محبوسًا في داخله بطريقة آمنة ومقبولة اجتماعيًا. ومن هنا فإن الضحك عند فرويد ليس مجرد رد فعل بسيط، بل هو فعل تحرر وانفراج نفسي، يُسهم في تخفيف التوتر ويعيد التوازن إلى الذات.
إذا تأملنا في المواقف اليومية التي تدفعنا إلى الضحك نجد أنها تتكرر وفق آليات محددة، فالتكرار ذاته يصبح مصدرًا للضحك، كما يحدث عندما يعيد شخصان الحركة نفسها أو يرددان الكلمة ذاتها في اللحظة نفسها، الضحك هنا لا ينتج من الفعل بحد ذاته وإنما من المفاجأة التي يصنعها التطابق غير المتوقع، كذلك حين نتوقع دخول شخص ما في لحظة بعينها فيتحقق التوقع، تنفجر الضحكة بوصفها استجابة لحضور المفاجئ والمتوقع معًا، في هذه اللحظات يتضح أن الضحك ليس فقط رد فعل بل هو تفاعل مع الوعي والتوقع والخيال.
السخرية أحد أشكال الضحك الأكثر إثارة للجدل، فهي تجمع بين الفكاهة والانتقاد، وقد تتجاوز حدود الطرافة لتصبح هجاءً لاذعًا، في الكوميديا السياسية أو في رسوم الكاريكاتير، نجد أن الضحك لا يقتصر على إضحاك الجمهور، وإنما يؤدي وظيفة اجتماعية وسياسية بالغة الأهمية، إذ يكشف عيوب السلطة أو يفضح فسادًا أو يسلط الضوء على انحراف، لكن الوجه الآخر للسخرية يكمن في طاقتها الإصلاحية، فهي لا تكتفي بالكشف عن الخطأ، بل تدفع المتلقي للتفكير وإعادة النظر في ذاته أو في واقعه، الضحك الساخر هو نصل جارح، لكنه قد يكون ضوءًا كاشفًا يفضح التناقضات ويضعها تحت المجهر، ولهذا السبب خشي كثير من الطغاة عبر التاريخ من الفنانين الكوميديين والساخرين، لأن قوة السخرية أحيانًا تتجاوز وقع الخطابة الجادة أو الجدال الفلسفي، إن ضحكة واحدة صادقة أمام مشهد عبثي قد تُسقط هيبة زائفة وتعيد الإنسان إلى وعيه.
في المجال الاجتماعي، يشكّل الضحك أداة تواصل أساسية، هو لغة غير لفظية تتجاوز الحواجز اللغوية والثقافية، ولعل أجمل ما فيه أنه يولّد نوعًا من العدوى الإيجابية، فالضحك الجماعي يوحّد المشاعر ويقرب المسافات، ويخلق شعورًا بالانتماء إلى دائرة إنسانية مشتركة، في لحظات الضحك، تزول الفروق الطبقية أو العرقية أو الدينية، ويتجلّى البعد الإنساني المحض، هذه الخاصية تجعل من الضحك مساحة للسلام الداخلي والخارجي معًا، غير أنّ الخطورة تكمن حين يتحول الضحك الجماعي إلى أداة إقصاء، عندما يوجَّه ضد «الآخر المختلف» في شكل تنمّر أو استهزاء جماعي، هنا يغدو الضحك هدمًا لا بناءً، ويزرع بذور الكراهية بدلًا من الوئام.
لقد اهتمت الفلسفات القديمة بالضحك أيضًا من منظور تربوي وأخلاقي، ففي الفكر الإسلامي مثلًا، نجد أحاديث نبوية تحض على التبسم كونه صدقة، وتشير إلى أن الابتسامة فعل إيجابي يعزز الألفة ويُدخل السرور إلى القلوب. لكن في المقابل، هناك تحذير من الإفراط في الضحك لأنه يُميت القلب ويُذهب الوقار، هذا التوازن يوضح إدراك التراث الإسلامي للضحك كظاهرة مزدوجة: فهو من جهة نعمة إنسانية وروحية، ومن جهة أخرى قد يتحول إلى طيش أو عبث إذا فقد حدوده.
أما في المسيحية، فنجد في التراث الكنسي إشارات إلى أن الضحك البريء قد يكون انعكاسًا للفرح الروحي، بينما السخرية الجارحة مذمومة لأنها تعكس كبرياءً أو استهزاءً بالآخرين، وفي الفلسفة البوذية، يُنظر إلى الضحك كوسيلة للتحرر من ثقل الرغبات والأنانية، إذ يساعد على إدراك هشاشة العالم وتفاهة التعلّق بالمظاهر، من هنا صار الضحك في بعض التقاليد البوذية جزءًا من الحكمة، لأنه يُذكّر الإنسان بخفة الوجود وعدم جدّيته المطلقة.
في الأدب، شكّل الضحك موضوعًا مركزيًا منذ «الكوميديا الإغريقية» التي مزجت بين التهكم والنقد الاجتماعي، وصولًا إلى الكوميديا الحديثة في المسرح والسينما، فمثلًا، في مسرحيات شكسبير، لا نجد الضحك مجرد عنصر ترفيهي، بل هو أداة لإبراز التناقضات الأخلاقية والسياسية، أما في الأدب العربي فقد اشتهر الجاحظ بقدرته على المزج بين الطرافة والحكمة، مستثمرًا الضحك وسيلة للتعليم والنقد الاجتماعي، وفي العصر الحديث، أصبحت السخرية الصحفية والكاريكاتير السياسي سلاحًا فعالًا في مواجهة الاستبداد والفساد، حتى إن بعض الرسوم الساخرة أسقطت هيبة أنظمة كاملة.
من زاوية أخرى، يتقاطع الضحك مع علم النفس الحديث في دوره العلاجي. فقد نشأ ما يعرف بـ«العلاج بالضحك» أو Laughter Therapy، الذي يثبت أن الضحك يخفف التوتر، يحفز إفراز هرمونات السعادة، ويقوي جهاز المناعة. هنا يصبح الضحك أداة علاجية قائمة بذاتها، وليس مجرد انعكاس لحالة نفسية، وفي هذا السياق، يمكننا القول إن الضحك يجسد الجسر بين الجسد والعقل والروح، بما يحمله من تأثير شامل على كيان الإنسان.
وللضحك بعد سياسي عميق، إذ يشكّل في كثير من الأحيان «صوت الشعب» في مواجهة السلطة، الكوميديا السوداء مثلًا لا تضحكنا لأنها مرحة، إنما لأنها تضعنا أمام عبثية الواقع بشكل لا نستطيع إنكاره. في لحظة الضحك السوداوي، ندرك حجم التناقض بين ما يُقال وما يُعاش، فنضحك وفي داخلنا مرارة، هذا الضحك الممزوج بالألم قد يكون بداية الوعي والتمرّد، وهو ما يجعل الأنظمة الشمولية تخشى السخرية أكثر من خشيتها للنقد الجاد.
إن العلاقة بين الضحك والإصلاح علاقة جدلية، فكما أن السخرية قد تجرح وتُقصي، يمكن لها أن تبني وتُصلح، الضحك يعيدنا إلى إنسانيتنا، يذكّرنا بأننا لسنا آلات، وبأننا قادرون على مواجهة المآسي بابتسامة تكسر حدة الألم، لقد شهدت لحظات تاريخية صعبة كان فيها الضحك الملاذ الوحيد للشعوب؛ ففي أزمنة الحرب والقمع، ظلّت النكتة الشعبية وسيلة للمقاومة الروحية، تمنح الناس الأمل وتكسر جدار الخوف.
إذا حاولنا النظر إلى الضحك من منظور وجودي فسنجده جزءًا من مقاومة العدم، فالضحكة في وجه الموت أو المصيبة تعني تحديًا للفناء وإصرارًا على مواصلة الحياة، وهنا يتجلى البعد الفلسفي الأعمق: الضحك موقف وجودي يعبّر عن رفض الاستسلام، وليس فقط ترفيهًا، ومن هذا المنطلق، يمكن أن نفهم كيف أن بعض الفلاسفة رأوا في الضحك حكمة أعلى، لأنه يحررنا من ثقل العالم ويمنحنا القدرة على مواجهة عبثيته بخفة.
من الناحية الأنثروبولوجية، تشير الدراسات إلى أن الضحك يعود إلى آلاف السنين، وأنه لم يكن يومًا مجرد فعل فردي، إنما ممارسة جماعية مرتبطة بالطقوس والاحتفالات، فقد ارتبطت طقوس الضحك بالرقص والموسيقى والاحتفالات الدينية، ما يؤكد أن الضحك في أصله طقس جماعي يعزز الروابط بين الأفراد، ولعل هذا ما يفسر سرّ «العدوى الضاحكة» حين يضحك أحدهم فيثير ضحك الآخرين دون سبب مباشر.
إذًا، يمكننا القول إن الضحك يحمل وجوهًا متعددة: هو متعة فردية، وعلاج نفسي، ولغة اجتماعية، وسلاح سياسي، ورسالة إنسانية، تكمن قوته في هذه القدرة المزدوجة على الجمع بين الهدم والبناء، بين النقد والإصلاح، بين الألم والفرح، هو ظاهرة تجمع في طياتها المتناقضات، وتكشف عن عمق التجربة الإنسانية.
وفي النهاية، يبقى السؤال الفلسفي مفتوحًا: هل الضحك وسيلة للهروب من الواقع أم أداة لمواجهته؟ هل هو تنفيس عن الألم أم تعبير عن حكمة عليا تتجاوز المأساة؟ ربما هو الاثنان معًا، فالضحك، في صورته الأعمق، هو فعل مقاومة وإبداع، ومرآة للإنسان وهو يتأرجح بين الهشاشة والعظمة، بين السخرية والإصلاح، وليس مجرد ردة فعل.
