مفاتيحُ عديدةٌ تلتقي بذاكرتك لتلقِيَ بنفسك وبحياةٍ عشتْها بطريقةٍ أو بآخرَ، فروايةُ: مخاتيرُ المحصورةِ للكاتبِ نور الدِّين الإسماعيل شرخٌ من شروخِ الأرواحِ في سورية، وهي بدءًا من التَّقديمِ للزَّميلِ محمَّد منصور، ستصعقُك الكلماتُ، فتصفع الذَّاكرةَ لإبقائها حيَّةً خاصَّةً باستخدامه عبارةَ: “حينَ يجعلُ من هذا الخوفِ سجنًا للإنسانِ، لا يتخطَّاهُ، وإن جاءَ من يفتحُ له الأبوابَ، ويفكُّ له القيودَ والأصفادَ،” هذا المدخلُ الَّذي يأخذُك نحوَ سراديبِ روايةٍ؛ لا تغفلُ التَّفاصيلَ، فتسلط النُّورَ على أوجاعِ السُّوريِّينَ المسكوتِ عنها عبرَ متخيِّلِ قريةِ المحصورةِ ومختارِها والشَّخصياتِ الَّتي خلقتْها الرِّوايةُ؛ لتتعايشَ فيها، ويقتاتَ بعضُها على بعضٍ عبرَ أدواتِ الكاتبِ نور الدِّين الإسماعيل..
إذا يبدأ بلغةٍ سرديَّةٍ عاليةٍ محمَّلةٍ بالصُّورِ والتَّعابيرِ والبلاغةِ اللُّغويَّةِ مركِّزًا على تفاصيلِ المكانِ كخطوةٍ أولى؛ لينسجَ عالمًا مُتكاملًا لحيواتٍ عديدةٍ على الورقِ، لا تخلو من النَّقدِ اللَّاذعِ لواقعٍ مريرٍ، تأقلمَ معَه كلُّ مَن في المحصورة الَّتي تمثَّلُ سوريةَ بشكلٍ أو بآخرَ، وما رزحتْ تحتَه من معاناةٍ لعقودٍ عديدةٍ، ونجدُ ذلك بارزًا جارحًا في قولِ الكاتبِ: “يكفيه أنَّه مدعومٌ من الجهاتِ العليا الَّتي تعطِي المنصبَ لمَنْ تشاءُ، وتنزعُهُ ممَّن تشاءُ، طبعًا مقابل بعضِ الخدماتِ الَّتي يقدِّمُها ذلكَ الشَّخصُ تعبيرًا عن ولائِهِ وطاعتِهِ”، فالنَّقدُ هنا موجَّهٌ لسلطة النَّظامِ الَّتي كانت تتسلَّى بالأكبادِ واحتياجاتِهم مقابلَ استدرارٍ دائمٍ لأموالِهم، كما لم يهملِ الكاتبُ العاداتِ والتَّقاليدَ الشَّرقيَّةَ للمرأةِ والزّوجة بالتَّحديد من حبِّها وغيرتِها ومحبَّتِها للكلامِ والتَّباهي وفعلِها المستحيلَ لجذبِ زوجِها وإبقائِهِ طيَّ أحلامِها، فالمرأةُ البسيطةُ تُبجِّلُ زوجَها أيًّا كانَ، وكيفما كانَ لتدورَ حكاياتُ المحصورةِ وسطَ زمنٍ مفتوحِ الأفقِ.
المحصورة كمرآة وطن: قراءةٌ نقديَّةٌ نفسيَّةٌ ورمزيَّةٌ في سردِ ما قبلَ الانفجارِ
في فضاءٍ غيرِ ملموسٍ من سردٍ لغويّ عالٍ وسطَ بنيةٍ سرديَّةٍ متشابكةٍ تُعيدُ إنتاجَ السَّلطةِ، وتُفكِّكُ البراءةَ، وتُحوّلُ العلاقاتِ اليوميَّةَ إلى طقوسَ رمزيَّةٍ مشحونةٍ بالخوفِ، التَّواطؤِ، والانكشافِ، لنصّ روائيّ يُكملُ زمنًا في أواخر عام 2014م، غير مُكتفٍ بتصويرِ الواقعِ، بل يستشرفُ ما سيحدثُ لاحقًا في سورية: من تصاعدِ القمعِ، إلى تفكُّكِ السُّلطةِ، إلى انكشافِ المجتمعِ أمام ذاتِهِ، حيثُ إنَّ كلَّ مشهدٍ يتحوَّلُ إلى مرآةٍ ضخمةٍ تعكسُ صورةَ وطنٍ كانَ قابعًا على حافَّةِ التَّحوُّلِ.
وقبل التَّوغُّلِ في نسيجِ رواية: المحصورة لا بدَّ من التقاطِ إشارةٍ واضحةٍ أرسلَها الكاتبُ بنباهةٍ وحذاقةٍ لافتينِ، فالتَّاريخُ في 2014م مع ربطِ الشَّخصيَّاتِ بدءاً بالمختارِ وحتَّى الطِّفلِ المظلومِ والأستاذ يُشكِّلون دائرةً متشابكةً، لا يمكنُ الخروجُ منها إلَّا نحوَ حقائقَ سوريَّةٍ بامتيازٍ أقضَّتْ مضجعَ السُّوريِّينَ والعائلاتِ، فالنَّصُّ المنجزُ أواخر عام 2014م يحملُ نقطةً زمنيَّةً كمفتاحٍ رمزيّ واستشرافيّ يُلخّصُ التَّحوُّلَ السِّياسيَّ والاجتماعيَّ الكبيرَ الَّذي كانتْ سوريَةُ على أعتابِهِ آنذاكَ.
حيثُ كانتِ البلادُ تتأرجحُ بينَ مركزيَّةِ السُّلطةِ وتفكُّكِها، بينَ خطابِ “الأمنِ الوطنيّ” وتفشِّي الشَّكِّ، بينَ الولاءِ القسريّ والانقسامِ الدَّاخليّ، وكلُّ ما فُرِضَ على مآذنِ الجوامعِ من تلميعٍ للصُّورةِ السُّلطويَّةِ مهما بلغتْ دمويَّتها.
الرِّواية تُجمّدُ هذه اللَّحظةَ داخلَ: “المحصورةِ”، وتكشفُها، فتختصرُ الوضعَ السِّياسيَّ الكبيرَ في سوريَةَ داخلَ بيئةٍ مُصغّرةٍ، حيثُ تتحوّلُ الشَّخصيَّاتُ لفئاتٍ رمزيَّةٍ اجتماعيَّةٍ وسياسيَّةٍ، تتشابكُ ما قبلَ الانفجارِ، حيثُ تتفاقمُ التَّوتُّراتُ، وتُثمرُ بذورُ الانقسامِ، وتبدأ السُّلطةُ بفقدانِ شرعيَّتِها الرَّمْزيَّةِ، ليظهرَ إلى العلنِ أنَّ السُّلطةَ باتتْ وكرَ مصالحَ وتقاريرَ وانتقامًا، وشبهاتٍ، وتخوينًا.
من المحصورة نحو رمزيَّات الفضاءِ السُّوريّ
المحصورة ليست مجرَّدَ قريةٍ، بل هي فضاءٌ رمزيٌّ، يُحاكي بنية السُّلطةِ المركزيَّةِ في شكلِها المُصغَّر حيثُ برزَ المنزولُ، كمركزٍ اجتماعيّ، يتحوّلُ إلى مسرحٍ للتَّمثيلِ السِّياسيّ، حيثُ تُدارُ الحواراتُ، وتُنسجُ المؤامراتُ، وتُختبَرُ الولاءاتُ كذلك: البيوتُ، الأزقَّةُ، الولائمُ، وحتَّى فنجانُ القهوةِ، كلُّها تتحوّلُ إلى رموزٍ مشحونةٍ بالدَّلالةِ، فالمنزولُ هو مكانٌ قميءٌ بالعمومِ، وفي الرِّواية هو مركزُ الطُّقوسِ والتَّقاريرَ وأدواتِ قمعٍ والولائمِ.. فيما برزتْ شخصيَّتا رمضانَ والأستاذِ معصوبي العينينِ؛ لترمزَ إلى العبورِ من الظُّلمِ إلى النَّجاةِ، كذلك باقي الشَّخصيَّات الَّتي تفلَّتتْ من أصابعِ الكاتبِ؛ لترسمَ سيرتَها في المحصورةِ واسعةِ الفضاءِ.
المختار أبو دحَّام
هو تجسيدٌ حيٌّ لنرجسيَّةٍ دفاعيَّةٍ تتغذَّى على الخوفِ من فقدانِ السَّيطرةِ، يعيشُ المختارُ قلقًا وجوديًّا على مكانتِهِ، ويشعرُ أنَّ أيَّ تراجعٍ في نفوذِهِ هو تهديدٌ مباشرٌ لذاتِهِ، لذلك، حينَ يفشلُ تقريرُه الكيديُّ ضدَّ رمضانَ، لا يكتفي بالخيبةِ، بل يبدأ سلسلةً من ردودِ الفعلِ الانتقاميَّة، يكتبُ تقاريرَ جديدةً، يختلقُ سرديَّاتٍ، ويبحثُ عن أدواتٍ جديدةٍ للهيمنةِ، المختارُ لا يتحمَّلُ النَّقدَ، ولا يقبلُ التَّعدُّدَ، بل يسعى إلى احتكارِ الصَّوتِ، حتَّى لو كانَ ذلكَ عبرَ الكذبِ والتَّلفيقِ، وهذهِ كانتْ إشارةً إلى بدايةِ النَّهايةِ لتلك الشَّخصيَّةِ..
رمضانُ القطّ
رمضان يُمِثّلُ المواطَن اَّلذي يحاولُ التَّمسُّكَ بصدقِهِ الدَّاخليّ وسطَ حصارٍ رمزيّ واجتماعيّ، هو واعٍ للفخاخِ، لكنَّه لا يملكُ أدواتِ الحمايةِ الكافيةِ، فيلجأُ إلى الصَّمتِ، ثُمَّ يُستدرَجُ إلى القولِ، فيُدانُ، هذِهِ الدِّيناميكيَّةُ النَّفسيَّةُ تُحاكي حالَ كثيرٍ من السُّوريِّينَ في تلكَ الفترةِ، حينَ كانَ الصَّمتُ هو النَّجاةَ الوحيدةَ، والكلمةُ قد تكونُ تُهمةً.
الأستاذُ رامي
الأستاذُ يُجسِّدُ الاتزانَ النَّفسيَّ، يتعاملُ مع السُّلطةِ بذكاءٍ، ويعرفُ متى يتكلَّمُ؟ ومتى يصمتُ؟ ما يجعلُه نقطةَ توازنٍ في النَّصِّ، هو ليسَ من أهلِ القريةِ، لكنَّه يقرؤُها جيّدًا، ويعرفُ أنَّ التَّورُّطَ في صراعاتِها لا يكونُ بالصَّوتِ العالي بل بالتَّموضعِ الذَّكيّ، وجودُهُ في الرِّواية يُمثّلُ صوتًا مدنيًّا واصلًا، لكنَّه مُهدِّدٌ، ويُحاكي دورَ المُثقَّفِ في زمنِ الانقسامِ حيثُ يُمثِّلُ إرادةَ النُّورِ ضدَّ وحلِ الظَّلامِ.
بينما سلوم، أبو سليم، الشَّيخ رضوان، وسعدو، يتحوّلونَ إلى “كومبارسٍ”، يؤيِّدونَ دونَ وعيٍ، ما يكشفُ عن بنيةٍ اجتماعيَّةٍ تُعيدُ إنتاجَ السُّلطةِ عبرَ التَّواطُؤِ الصَّامتِ، هم أدواتُ التَّكرارِ لا التَّغييرِ، ويُجسِّدونَ كيفَ يُعادُ إنتاجُ القمعِ من داخلِ المجتمعِ نفسِهِ؟
الطِّفلُ المُقيَّدُ
الطِّفلُ الَّذي يُستقبلُ كتهديدٍ أمنيّ يُجسِّدُ كيفَ يُعادُ تشكيلَ البراءةِ كعدوّ جسدُه يتحوّلُ إلى وثيقةِ قهرٍ، ودموعُهُ إلى خطوطٍ شاقوليَّةٍ ترسمُ وجهًا لا يبكي فقطْ، إنَّما يُعلنُ انكسارًا داخليًّا أمامَ سلطةٍ لا تفرّقُ بين البراءةِ والجريمةِ؛ ليختصرَ قضيةَ الخوفِ الموشومِ عنوةً في الجسدِ.
الشَّيخ راقي
بلباسِهِ الأخضرِ المبالغِ فيه يتحوّلُ إلى شُجيرةٍ بشريَّةٍ، كائنٌ هجينٌ بينَ البشرِ والجنِّ، يُقدِّمُ نفسَهُ كوسيطٍ بينَ العالمينِ، الطُّقوسُ الَّتي يمارسُها -الصَّحنُ، النُّقودُ، الحركاتُ الغريبةُ، والورقةُ الملفوفةُ-تُبنَى على وهمٍ مُتقنٍ، حيثُ يُستبدلُ الخوفُ بالعقلِ، ويُستثمَرُ الجهلُ في صناعةِ سلطةٍ خرافيَّةٍ.
وبالعودةِ لأصول النَّسيجِ الرِّوائيّ نجدُ لُغةَ الكاتبِ مشحونةً بالتَّوتُّرِ، تتناسبُ طرداً مع الأحداثِ متعدِّدةِ الذُّرا، فتتراوحُ بينَ الفصحى المحكمةِ والسَّردِ المشحونِ بالعاميَّةِ الرَّمْزيَّةِ، ما يمنحُ الشَّخصيَّاتِ طابعًا واقعيًّا؛ ويعكسُ التَّوتُّراتِ النَّفسيَّةَ والاجتماعيَّةَ، استخدامُ تعابيرَ مثلِ: “ورقتُهُ أُحرقت”، “الشَّجرُة الَّتي تعرّت”، و”الاحتطاب” وحتَّى مدخلات الشِّعر الواردةِ في الرِّواية الَّتي أضافت متسعاً للتَّنفُّسِ يحتاجُهُ القارئُ لالتقاطِ أنفاسِه وسطَ تسارُعٍ وتداخُلٍ قادمٍ في الفصولِ والأحداثِ تعمَّدَه الكاتبُ؛ ليمنحَ النَّصَّ بُعدًا رمزيًّا ساخرًا، مُعرِّيًا حقيقةَ المختارِ أمامَ ذاتِهِ والآخرينَ.
أمَّا من حيثُ البلاغةُ التَّصويريَّةُ فهي حاضرةٌ بقوَّةٍ كوصفِ المُختارِ بأنَّه “شُجيرةٌ قصيرةٌ”، أو رأسُ الخروفِ الَّذي “يُخرجُ لسانَهُ باتِّجاهِ المختارِ”، وهي صُورٌ ساخرةٌ تحملُ دلالاتٍ رمزيَّةً عميقةً، كذلك التَّعابيرُ الجسديَّةُ تُستخدَمُ كمرآةٍ للانفعالاتٍ، مثل: “الوجه المعفّر”، “الرَّكلة”، “القيود”، “الكرش الملامس للأرض”، وكلُّها تعابيرُ تُجسِّدُ القهرَ، التَّسلُّطَ والذُّلَّ.
أخيراً..
ما حدثَ في المحصورةِ من تقاريرَ كيديَّةٍ، اعتقالاتٍ، ولاءاتٍ متبدِّلةٍ، وخوفٍ من الكلمةِ، هو اختزالٌ دقيقٌ لما كانَ يحدثُ في سوريَةَ في تلكَ المرحلةِ، فالرِّوايةُ لا تشرحُ الوضعَ السِّياسيَّ بشكلٍ مباشرٍ، لكنَّها تقدّمُه عبرَ بنيةٍ سرديَّةٍ رمزيَّةٍ، تجعلُ من كلِّ مشهدٍ في القريةِ مرآةً لحالةٍ وطنيَّةٍ أكبرَ.
العميدُ مجدي، الَّذي يتلقَّى أوامرَ من القيادةِ دونَ نقاشٍ، يُجسِّدُ بنيةَ السُّلطةِ الَّتي بدأتْ تفقِدُ قدرتَها على المبادرةِ، وتتحوَّلُ إلى منفِّذٍ لأوامرَ عليا، هذا التَّدرُّجُ في فقدانِ السِّيطرةِ يُحاكي ما حدثَ لاحقًا في سوريَةَ، حينَ بدأتْ مراكزُ القرارِ تتوزَّعُ، وتتحوَّلُ السُّلطةُ إلى شبكةٍ من الولاءاتِ، لا إلى مركزٍ واحدٍ.
حتَّى ردودُ الفعلِ على كلامِ رمضانَ تُظهِرُ كيفَ أنَّ الكلمةَ أصبحتْ عبئًا؟ وكيفَ أنَّ السُّلطةَ لم تعدْ تحتملُ حتَّى النَّقدَ المؤدَّبَ؟ هذا التَّوتُّرُ بينَ القولِ والصَّمتِ، بينَ الولاءِ والصِّدقِ، هو ما سيشكّلُ لاحقًا جوهرَ الانقسامِ السُّوريِّ، حينَ لم يعدْ هناكَ مساحةٌ للرَّماديِّ، بل فقط الأبيض أو الأسود.
إذاً.. رواية: المحصورة لم تكنْ مدارَ قريةٍ فقطْ، بل قدَّمَتْ مرآةً لوطنٍ عاشتْ كلُّ شخصيَّةٍ فيه تحملُ ظلًّا من سوريَةَ، فالعتبةُ الزَّمنيَّةُ في 2014م تُعلنُ أنَّ ما حدثَ في المحصورةِ هو ما سيحدثُ في البلادِ، وأنَّ الشَّخصيَّاتِ الَّتي تحرّكتْ بحثاً عن النُّورِ كانَ بإمكانِها إشعالُ الفتيلِ فيما ظلَّت الشَّخصيَّاتُ الثانويَّةُ وشخصيَّةُ المختارِ الحاملَ الظَّاهريَّ للنَّصّ تتشظَّى تدريجيًّا، وتعيدُ إنتاجَ نفسِها عبرَ الخوفِ، الولاءِ والتَّبعيَّةِ، على حينَ لم تخلُ الرِّوايةُ من حواملَ عديدةٍ ضمَّها الكاتبُ لروايتِهِ متشرِّفًا نصرًا محمولًا على الأكتافِ كعرسٍ لشهيدٍ يرفعُ يدَهُ بالنَّصرِ، ويسقطُ واقفًا وحيًّا.
