مازنٌ مباركٌ
عَالِمٌ كَبِيرٌ وَلُغويٌّ ثقةٌ
ملف 1929
العالمُ اللُّغوي السُّوريُّ الكبيرُ، ولدَ في دمشق عام 1930م في أسرةٍ علميَّةٍ، فقد كانَ والدُهُ الشَّيخُ عبدُ القادرِ المباركُ عالمًا لُغويًّا معروفًا وأحدَ مؤسِّسي مَجمعِ اللُّغةِ العربيَّةِ في دمشقَ.
– درسَ في دمشقَ، وتخرَّجَ في جامعةِ القاهرةِ بدرجةِ الدُّكتوراه في علومِ اللُّغةِ العربيَّةِ.
– حصلَ على الأهليَّةِ للتَّدريسِ الثَّانويّ من المعهدِ العالي للمعلِّمينَ بدمشقَ.
– نالَ درجةَ الماجستيرِ في الآدابِ من جامعةِ القاهرةِ عام 1957م.
– حصلَ على درجةِ الدُّكتوراه في الآدابِ من جامعةِ القاهرةِ عام 1960م.
– عَمِلَ مدرِّسًا في جامعةِ دمشقَ وعددٍ من الجامعاتِ العربيَّةِ.
– أصبحَ أستاذًا مُساعدًا في كلِّيَّةِ الآدابِ بجامعةِ دمشقَ عام 1966م.
– تمَّ تعيينُهُ أستاذًا للُّغةِ العربيَّةِ في كلِّيَّةِ الآدابِ بجامعةِ دمشقَ عام 1970م.
– رأسَ قسمَ اللُّغةِ العربيَّةِ في جامعةِ قطرَ.
– عَمِلَ في معهدِ اللُّغةِ العربيَّةِ بالجزائرِ.
– لهُ العديدُ من المؤلَّفاتِ والتَّحقيقاتِ في مجالِ اللُّغةِ العربيَّةِ، منها:
“النَّحو العربيُّ، بحثٌ في نشأةِ النَّحو وتاريخِ العلَّةِ النَّحويَّةِ، والموجزُ في تاريخِ البلاغةِ”، ومجتمعُ الهمذانيّ من خلالِ مَقاماتِهِ”.
– قَامَ بتحقيقِ العديدِ من الكتبِ التُّراثيَّةِ، منها: “الإيضاحُ في عللِ النَّحو” للزَّجَّاجي و”اللاماتُ“.
– شاركَ في العديدِ من المُؤتمراتِ والنَّدواتِ العلميَّةِ.
وفي هَذَا العددِ تُسلِّطُ (الأسبوعُ الأدبيُّ) الضَّوءَ على مقالاتٍ وشهاداتٍ تُشيدُ بحياتِهِ العلميَّةِ والأكاديميَّةِ، وما قدَّمَه للُّغةِ من إضافاتٍ وإثراءاتٍ.
الدُّكتورُ مازنٌ المباركُ
عُنْوَانُ الأَصَالةِ
د. أيمن الشوّا
قالَ أهلُ الأدبِ:
وَهَلْ يُنْبِتُ الخَطِّيَّ إِلَّا وشيجُهُ وَتُغْرَسُ إِلَّا فِيْ مَنَابِتِهَا النَّخْلُ
فَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبَائِهِمْ قَبْلُ
نعمْ، فهذا عُنوانُ الأصالةِ في أستاذِ الأجيالِ العلّامةِ الدُّكتورِ مازنٍ عبدِ القادرِ المباركِ الَّذي نشأَ في بيتِ علمٍ وفضلٍ وأدبٍ، ولا يُولدُ الكريمُ المباركُ إلَّا في موضعٍ كريمٍ مباركٍ، وما يقولُه فردٌ مِنَّا أنَّما هو لسانُ حالِ أمّةٍ.
عالمٌ جَعَلَ خدمتَهُ للّغةِ العربيَّةِ عِبادةً، فما قصَّرَ في هذه العِبادةِ؛ تعلُّمًا وتعليمًا وتأليفًا وإرشادًا لأجيالٍ تلهجُ بذكرِ فضائلِهِ وغيرتِهِ على الدِّينِ والعربيَّةِ، وهما -كما يُؤكِّدُ -حفظَه اللهُ- صنوانِ، ولعلَّ حِفظَ اللُّغةِ وحمايتَهَا أهمُّ من حِفظِ الدَّولةِ.. فبِاللّغةِ يُميِّزُ الأمَّةَ: وكَمْ عَزَّ أقوامٌ بِعزّ لغاتِ
أعطى المَثَلَ الأعلى للعالَمِ في اللُّغةِ العربيَّة ِخاصَّةً، من خلالِ تَكَاملِ علومِ العربيَّةِ لديهِ؛ فما أروعَ خطَّ الرّقعةِ من أناملِهِ اللَّطيفةِ والضَّبطَ التَّامَّ ورشاقةَ التَّعبيرِ! -وما أبدَعَ محاضراتِه!- طلْقُ العِبارةِ، فصيحُ الخَطابةِ، وما أسهلَ عرضَ عالِمٍ أَحبُّهُ طُلَّابُهُ وأصدقاؤُهُ وقُرّاؤُهُ والعامُّ والخَاصُّ!
تجلَّى فيه -إنْ شاءَ الله تعالى- حديثُ النَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ، إنَّ اللهَ إذا أحبَّ عبدًا قالَ لجبريلَ: يا جبريلُ، قد أحببتُ فلاناً، فأحِبَّهُ، فيحبُّهُ جبريلُ، ثُمَّ ينادي في أهلِ السَّماءِ: إنَّ اللهَ قدْ أحبَّ فلانًا، فأحبُّوه، فيحبُّهُ أهلُ السَّماءِ، ثمَّ يُوضعُ له القُبولُ في الأرضِ.
عَلَّمَ أستاذُنا المباركُ بسلوكِهِ قبلَ علمِهِ المُنعشِ للعقولِ: فكانتْ أنظارُهُ لجميعِ النّاسِ؛ علماءَ وفضلاءَ ووجهاءَ وبُسطَاءَ غايةً في الإنصافِ، حِسيًّا ومعنًى.
علَّمَنا: كيفَ أصبحتَ، كيفَ أَمسيتَ ممّا يغرسُ الودَّ في فؤادِ الكريمِ.
فكان يتعاهدُنا بالسُّؤالِ عن صحَّتِنا -وصحَّةِ أهلِنا وأبنائِنا ووالدينا- وأصدقائِنا وعن عمِلِهم ومشروعاتِهم، ويدعو لنا دائمًا بالتَّوفيقِ، ويحثُّنا على الهِمَّةِ العاليةِ والإخلاصِ في أعمالِنا، ويؤكِّدُ الحقَّ في السُّخطِ والرِّضَا، ويعرفُنا عمالًا يليقُ ولا يُرتضى.. ويوجِّهُنا نحوَ الصَّوابِ دائماً، فضلُهُ عميمٌ، محبَّتُه لفائدةِ النَّاسِ جميعًا مضربُ المثلِ، حُسْنُ مجالستِهِ ولطيفُ أُنسِهِ وكرمُهُ الزَّائدُ وأدبُهُ عنوانُ المثلِ العالي للعالِمِ.
فَإِنْ نَحْنُ أَثْنَيْنَا عَلَيْكَ بِصَالِحٍ فَأَنْتَ لِمَا نُثْنِيْ وَفَوْقَ الَّذِيْ نُثْنِيْ
باركَ اللهُ بأستاذِنا وعالِمِنا، ووفَّقَنا وإيَّاهُ لمَا يحبُّه ويرضاهُ.
علمُ الصَّرْفِ وتمكينُهُ في نفوسِ الطَّلبةِ -والنَّحو- أشرَفُ علمَي العربيَّةِ، فقد تمكَّنَ من أساليبِهِ ودقَّةِ أصالتِهِ، فكانَ في تدريسِهِ وتأليفِهِ غايةَ الإشراقِ والإبداعِ والإقناعِ والبلاغةِ، وقد امتلكَ ناصيتَها ووجَّهَ القرَّاءَ نحوَ البلاغةِ وكيفيَّةِ عرضِها الميسّرِ- وتجديدِ مناهجِها.. ليكونَ كُلُّ ذلكَ عمدةً لعالمِ العربيَّةِ وتدريسِها- وللارتقاءِ بالمناهجِ التَّعليميَّةِ على أحسنِ ترتيبٍ وأجملِ طريقةٍ.
مُحِيْطُ الْعِلْمِ طَوْدُ الْعِلْمِ حَقًّا لَهُ الْفَضْلُ الْعَظِيْمُ بِلَا خِلَافِ
ذِكْرَياتٌ مَعَ أُسْتَاذِنَا الدُّكتورِ مازنٍ المباركِ
د. نزار أباظة
ما زلتُ إلى الآنَ أذكرُ درسَ أستاذِنا الدُّكتورِ مازنٍ المباركِ في جامعةِ دمشقَ يومَ كانَ يُلقي علينا دُروسَ البلاغةِ، ببسمتِهِ المُشرقةِ الَّتي كانتْ تُبدِّدُ جفاءَ الدُّروسِ، فيُذلِّلُ صعوبةَ المادَّةِ، ويُقدِّمُها إلينا سلسةً حلوةً بهيَّةً؛ يُحبِّبُها إلينا، فنُقبِلُ عليهِ، ونُكثِرُ الكلامَ معَه في الدَّرسِ وبعدَ الدَّرسِ، فيتوسَّعُ بنا، ونشعرُ أنَّه واحدٌ منَّا إذ لم يكنْ يتبرَّمُ بسُؤالٍ، ولو تافهًا عن كلّ الأسئلةِ بما يلزمُ، وأحيانًا بفكاهةٍ أو بتعليقٍ مُضحكٍ.
ومن هنا التفَّ حولَهُ طلابُهُ، وأحبَّوهُ، ولم يقفُوا معَهُ على جانبِ الحرجِ، بل إنَّ محبَّتَهُ امتدَّتْ إلى خارجِ الجامعةِ، حتَّى كنَّا نزورُه في بيتِهِ، ولا نقطعُ زيارتَهُ، فيستقبلُنا بمحبَّةٍ تظهرُ في عينيهِ، ويُحدِّثُنا بما يفيدُنا، لا ينقضِي مجلسُهُ إلَّا على فوائدَ جمَّةٍ وطرائفَ مفيدةٍ.
عرفَ الدُّكتورُ مازنٌ معنى التَّدريسِ الَّذي خلطَهُ بالتَّربيةِ والتَّوجيهِ المباشرِ وغيرِ المباشرِ.. في بعضِ دروسِنا معَ بعضِ أساتذتِنا نقفُ على شفا الرَّهبةِ أو الانقباضِ، نحصلُ على المعلومةِ بشيءٍ من جفافٍ، ورُبَّما تعرَّضَ بعضُنا لسُؤالٍ يَسألُهُ إلى توبيخٍ ولومٍ أو هُزءٍ وسخريةٍ، ونحنُ بعدُ طلابٌ أغرارٌ مُستجدونَ في الجامعةِ.
أقعدُ اليومَ، وقد كتبتُ عن تلكَ الأيَّام، فأجدُ فوارقَ بينَ أساتذةٍ كثيرينَ لم نصِلْهم بعدَ انصرافِنا عن الدِّراسةِ.. كانُوا حوادثَ مضتْ في حياتنِا مع احترامِنا لكثيرٍ منهم أو لجميعِهم، إذ قدَّموا جهدَهم.. ولكنَّها طبيعةُ اختلافِ الشَّخصيَّاتِ الَّتي خلقَها اللهُ مختلفةٌ.
وأنا اليومَ ما أزالُ على صلةٍ مع أستاذِنا الدُّكتورِ مازنٍ.. كتبَ لي مشكورًا مُقدِّماتٍ لبعضِ كتبي، وأثنى عليهِ بما لا أتوقَّعُ من حميدِ الثَّناءِ، مَدَّ اللهُ في عُمرِهِ معَ العَافيةِ والقُوَّةِ.
شهادة الدكتور محمود السيّد
نيل الأستاذ الدكتور مازن المبارك جائزة الملك سلمان العالمي للغة العربية
إنّ مجمع اللغة العربية بدمشق ليعتز أيما اعتزاز بنيل أستاذنا الموقر هذه الجائزة من مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية، فهو بها جدير، تقديراً لكفاياته اللغوية المتميزة، ومقامه الرفيع، وإنتاجه الغزير في خدمة اللغة العربية على الصعيدين المحلي والعربي عبر مسيرة حياته، إضافة إلى مكانته العلمية، والأخلاق الرفيعة التي يتحلى بها.
وهنيئاً لنا ولمجمعنا ولوطننا السوري والعربي نيله هذه الجائزة التي تشرف به الجوائز وتعلو، وإننا لنفتخر بكم يا أستاذنا الجليل، يا من كان لي شرف التلمذة على يديك الكريمتين في جامعة دمشق،
ويا أستاذ الأساتذة في أصقاع عدة من وطننا العربي.
حفظكم الله ورعاكم وأسرتكم الكريمة، ودمت موفقاً ومتألقاً في صحة وعافية وراحة بال وأحسن حال، اللهم آمين.
أضواءٌ على تَارِيخِ عُلُومِ العربيَّةِ: دِرَاسَةٌ فِي كِتَابِ الدُّكتورِ مازنٍ المباركِ
بقلم: محمَّد زكريَّا الحمد
في عصرٍ يتسارعُ فيهِ التَّخصُّصُ الأكاديميُّ، ويغلبُ عليهِ الفَصلُ بينَ فروعِ المعرفةِ، يأتي كتابُ: أضواء على تاريخِ علومِ العربيَّةِ: النَّحو والصَّرف والإملاء والبلاغة والعروض للأستاذِ الدُّكتورِ مازنٍ المباركِ (دار ابن كثير، دمشق، ط1، 2021م)؛ ليذكّرَنا بأصلِ الوحدةِ العضويَّةِ الَّتي كانتْ تجمعُ علومَ اللُّغةِ العربيَّةِ تحتَ مظلَّةِ “العربيَّةِ” الواحدةِ، هذا الكتابُ الَّذي يجمعُ مقالاتٍ مُتفرِّقةٍ كُتبتْ على مدى عقودٍ، ليسَ مُجرَّدَ تجميعٍ لنصوصٍ سابقةٍ، بل هو دعوةٌ لإعادةِ النَّظرِ في تاريخِ هذه العلومِ، وفي المنهجِ الَّذي نُدرِّسُ بها، وفي الغايةِ الَّتي نتوخَّاها من تعليمِها.
المؤلِّف: مسيرةٌ علميَّةٌ امتدَّتْ لأكثرَ من سبعةِ عقودٍ
وُلدَ الدُّكتورُ مازنٌ المباركُ في دمشقَ عام 1930م، من أسرةٍ علميَّةٍ هاجرَ جدُّها من الجزائرِ مع الأميرِ عبدِ القادرِ الجزائريّ، والدُهُ الشَّيخُ عبدُ القادرِ المباركُ كانَ عضوًا مُؤسِّسًا في مجمعِ اللُّغةِ العربيَّةِ بدمشقَ عام 1930م، تخرَّجَ المباركُ في جامعةِ دمشقَ عام 1952م بإجازةٍ في الآدابِ ودبلومٍ في التَّربيةِ، ثمَّ أُوفدُ إلى القاهرةِ حيثُ نالَ الماجستيرَ عام 1957م عن تحقيقِ الإيضاحِ في عللِ النَّحوِ للزَّجَّاجي، والدُّكتوراهَ عام 1960م عن الرُّمانيّ النَّحويّ في ضوءِ شرحِهِ لكتابِ سيبويهِ.
درَّسَ في جامعاتِ: دمشقَ، الرياضِ، بيروتَ، الدَّوحةِ، ودبيّ، وشغلَ مناصبَ قياديَّةً مثلَ: رئاسة قسم الحضارة في هيئة الموسوعة العربيَّة (1987-1989م)، ورئاسة قسم اللُّغةِ العربيَّةِ في كلِّيَّة الدِّراساتِ الإسلاميَّةِ بدبيّ (1990-2002م)، انضمَّ إلى مجمعِ اللُّغةِ العربيَّةِ بدمشقَ عام 2006م، وهو عضوٌ في المجلسِ العلميّ للمعجمِ التَّاريخيّ باتِّحاد المجامعِ اللُّغويَّة بالقاهرةِ.
أثرى المكتبةَ العربيَّةَ بعشراتِ المؤلَّفاتِ، منها: الزَّجَّاجيُّ، النَّحوُ العربيُّ، المُوجزُ في تاريخِ البلاغةِ، نحوَ وعيٍ لُغويّ، واللُّغةُ العربيَّةُ في التَّعليمِ العالي، كما حقَّقَ تراثًا نفيسًا مثلَ: مُغني اللَّبيب، اللَّامات للزَّجَّاجيّ، والمقتضب لابن جنّي، نشرَ مئاتِ المقالاتِ، وشاركَ في مُؤتمراتٍ دوليَّةٍ، ممَّا جعلَهُ أحدَ أعمدةِ الدِّراساتِ اللُّغويَّةِ العربيَّةِ في القرنِ العشرينَ.
الكتابُ: جمعٌ لشتاتٍ، ودعوةٌ للوَحدةِ
يجمعُ الكِتابُ مَقالاتٍ كُتبتْ في سياقاتٍ مختلفةٍ: بحوث أكاديميَّة، مداخل موسوعيَّة، مقالات مجلَّات، محاضرات، لم يُعدِ المؤلِّفُ صياغتَها جذريًّا، بل اكتفى بحواشٍ محدودةٍ، ليحافظَ على طابعِها الزَّمنيّ والظَّرفيّ، الهدفُ المُعلنُ: تسهيلُ الوصولِ إلى موادَّ متفرِّقةٍ حولَ تاريخِ علومِ العربيَّةِ في مصدرٍ واحدٍ.
لكنَّ الرِّسالةَ الأعمقَ تكمنُ في المُقدِّمةُ: علومُ العربيَّةِ ليستْ فروعًا منفصلةً، بل هي علمٌ واحدٌ اسمُهُ “العربيَّة”، يُحذِّرُ المباركُ من أنَّ فصلَها أدى إلى جهلِ بعضِ الأساتذةِ بأجزاءٍ منها، واستغرابِ الطَّلابِ من ربطِ النَّحو بالأدبِ أو الصَّرفِ بالبلاغةِ، يقولُ: “كأنَّ معرفةَ النَّحوِ هدفُهُ الإعرابُ، وليسَ إقامةَ الكلامِ”، الصَّرفُ أساسُ الأبنيةِ، والنَّحوُ يحتاجُ المعانيَ ليضعَ الكلمةَ في محلِّها، والبلاغةُ تاجُ التَّعبيرِ، تاريخيًّا، كانتْ متضامنةً في كُتبِ المُتقدِّمينَ، ثمَّ تفرَّقتْ بالتَّأليفِ المتَّخصِّصِ.
مُحتوى الكِتابِ: رحلةٌ عبرَ خمسةِ علومٍ
- عِلمُ النَّحْوِ: مِنَ الأسطورةِ إلى التَّاريخِ
يردُّ المباركُ على المَقولةِ الشَّائعةِ بأنَّ كِتابَ سيبويهِ أوَّلُ كتابٍ نحويّ مُتكاملٍ، يراهُ أقربَ إلى الأسطورةِ، لأنَّهُ يُخالفُ سنَّةَ التَّطورِ الحضاريّ، من خلالِ تتبُّعِ أقوالِ الخليلِ بنِ أحمدَ، أبي الأسودِ الدُّؤليّ، وغيرِهم، يُثبتُ أنَّ كتابَ سيبويهِ هو المرحلةُ السَّادسةُ في نشأةِ العربيَّة، يلحقُ ذلكَ بأعلامٍ حديثينَ، ثُمَّ يبحثُ العلَّةَ النَّحويَّةَ وتأثُّرَها بالفقهِ والكلامِ عبرَ القرونِ، معَ نقدِ ابنِ مضاءٍ القُرطبيّ.
يدعو للعودةِ إلى بساطةِ المُتذوِّقينَ: الخليلِ، الزَّجَّاجِ، ابنِ جنّي، عبدِ القاهرِ الجرجانيّ، يشترطُ الإصلاحَ على أساسينِ:
- الاكتفاءِ بالعلَّةِ لضبطِ اللُّغةِ، دونَ إلحاحٍ.
- أهمِّيَّةِ القياسِ لنماءِ اللُّغةِ.
يختمُ بتلخيصِ طبقاتِ النُّحاةِ وكُتبِهم من سيبويهِ إلى النَّحوِ الوافي لعباس حسن.
- عِلْمُ الصَّرفِ: أوليَّةٌ مفقودةٌ ومصطلحاتٌ باقيةٌ
يربطُ نشأةَ الصَّرفِ بالنَّحوِ، ويردُّ أولويَّةَ معاذ الهراء، عَادًّا إيَّاه مُعلّمًا تطبيقيًّا لا مُؤسِّسًا، يعزو البداياتِ إلى أصحابِ أبي الأسودِ، مع مصطلحاتٍ مُستدامةٍ، يبرزُ ابن جنّي كأعظمِ صرفيٍّ، ودقائق التَّصريفِ للمؤدِّبِ كنمطٍ تأليفيٍّ فريدٍ.
- عِلْمُ الإِملاءِ: من الخطِّ إلى الهمزةِ
ينقلُ آراءَ القُدماءِ في الخطِّ والهِجاءِ، ويبحثُ قضايا دقيقةً مثلَ كتابةِ “إذن”، والفرقَ بينَ الهمزةِ والألفِ.
- عِلْمُ البلاغةِ: مِن النَّقدِ العفويّ إلى الجمودِ
يتتبَّع أطوارَها: نقدٌ عفويٌّ، حجَّةُ إعجازٍ، مِعيارٌ شعريٌّ، اكتمالٌ عندَ عبدِ القاهرِ الجُرجانيّ، ثُمَّ جمودٌ، يدعو لربطِها بالنَّقدِ الأدبيّ وتجديدِها.
- عِلْمُ العَرُوضِ: نبذةٌ موجَزةٌ
ثلاثُ صفحاتٍ ونصفٌ كمدخلٍ عامٍّ، كُتبتْ للموسوعةِ العربيَّةِ في الثَّمانينيَّات.
مَرجِعٌ قيَّمٌ، ودعوةٌ للتَّكاملِ
يبقى الكتابُ مرجعًا أساسيًّا في تأريخِ علومِ العربيَّة، لخبرةِ مؤلِّفِهِ الاستثنائيَّةِ، ولجُرأتِهِ في نقاشِ المُسلَّماتِ، لكنَّه يعاني تفاوتَ المَقالاتِ طُولًا وعُمقًا وأُسلوبًا، بسببِ تباعدِ سياقاتِ كتابتِها، ممَّا يفتقرُ إلى منهجٍ ناظمٍ موحَّدٍ،
ومع ذلكَ، ينجحُ في إلقاءِ أضواءٍ كاشفةٍ على نشأةِ هذِهِ العلومِ، ويُحفِّزُ على إعادةِ توحيدِها في التَّعليمِ والبحثِ، ففي زمنِ التَّخصُّصِ المُفرِطِ، يذكَّرُنا المباركُ بأنَّ اللُّغةَ ليستْ أجزاءً مُفكَّكةً، بل كيانٌ حيٌّ متكاملٌ، وأنَّ فهمَ تاريخِها هو مفتاحُ إحيائِها.
اللُّغويُّ الكبيرُ مازنٌ المباركُ
أحمد أبو بكر الحورانيّ
لو عاشَ الجاحظُ إلى زمانِنا، لعدَّ الدُّكتورَ مازنًا المباركَ واحدًا من ورثةِ بيانِهِ وقرناءِ قلمِهِ، ولرأى فيهِ صورةً من تلكَ العقولِ الَّتي نُسجتْ من نورِ العربيَّةِ، واصطفتْها الأقلامُ لتكونَ حُرّاسَ البيانِ ومفاتيحَ الفهمِ.
فهَذَا الرَّجلُ، قدْ آمنَ بالعربيَّةِ إيمانَ العارفِ بقداستِها، وعاشَ لها كما يعيشُ العابدُ في محرابِهِ، لا يملُّ درسَها، ولا يشبعُ من البحثِ في أسرارِها، تراهُ يُحدِّثُكَ عن النَّحوِ؛ فيُريكَ فيه فنًّا من الفنونِ، وعن البلاغةِ فتخالُها ألحانًا تُطرِبُ القلبَ والعقلَ معًا.
جمعَ بينَ علمٍ رصينٍ وفكرٍ رشيقٍ، فهو من أولئكَ القلائلَ الَّذينَ صانُوا اللُّغةَ من الابتذالِ، وردُّوها إلى مكانتِها الأولى؛ لغةِ فكرٍ وذوقٍ وحضارةٍ، وإنّكَ لتقرأُ لهُ، فتجدُ في أسلوبِهِ عبيرَ التُّراثِ، وفي عباراتِهِ صفاءَ الماءِ الزُّلالِ، وفي منطقِهِ سكينةَ العلماءِ الَّذينَ لا يتكلَّمونَ إلَّا عن بَصَرٍ وحِكمةٍ.
حقًّا إنَّ الدُّكتورَ مازنًا المباركَ مدرسةٌ في ذاتِهِ؛ علَّمَ طلابَهُ أنَّ اللُّغةَ ليستْ حُروفًا تُلفَظُ، بل روحٌ تُستنشَقُ، وأنَّ مَنْ أرادَ أن يكتبَ بالعربيَّةِ حقًّا، فليُطهّرْ قلبَهُ قبلَ لسانِهِ، وليستعنْ بالصِّدقِ قبلَ الصِّناعةِ.
وإنَّ أعظمَ ما يميِّزهُ أنَّهُ جمعَ بينَ دِقّةِ الُمحقّقِ وذَوقِ الأديبِ، وبينَ وقارِ العالِمِ ومرحِ المُعلّمِ، فكانَ كلامُهُ يفتحُ العقولَ كما تفتحُ الشَّمسُ نوافذَ الصَّباحِ.
فالدُّكتورُ مازن المبارك ليسَ مُجرَّدَ لُغويٍّ كبيرٍ، بل هو شاهدٌ على أنَّ العربيَّةَ لا تزالُ تنجبُ أبناءَها المُخلصينَ، الَّذينَ يحملونَ عنها عِبءَ الزَّمنِ، ويغرِسونَ في قلوبِ النَّاسِ حُبَّ الكلمةِ الطَّيّبةِ، كما غرسَ الأوّلونَ نورَهُم في صفحاتِ التَّاريخِ.
مازنٌ المباركُ؛ سَفِيرُ العَرَبِيَّةِ، سِفَارَتُهَا، وَسِفْرُ دِمَشْقَ القيِّمُ
محمّد نعيم الميدانيّ
إنَّ توجُّهَ صحيفةِ (الأسبوعِ الأدبيِّ) إلى تخصيصِ مَلفٍّ خاصٍّ بالدُّكتورِ المباركِ يُعيدُ إلى الذِّهنِ الملحقَ الثَّانيَ والسَّبعينَ للصَّحيفةِ ذاتِها، الصَّادر بتاريخ (25/8/1994م)، وقد جاءَ بعنوانِ: (العلّامَةُ مازنٌ المباركُ)، وكتبَ فيه يومَها د. سمر روحيّ الفيصل، د. عبد الإله نبهان، د. أحمد محمَّد قدور، د. محمَّد طاهر الحمصيّ، د. غازي طليمات، د. محمَّد خير البقاعيّ، وآخرون، كنتُ يومَها في الثَّالثةِ من عُمري! لتكتملَ دورةُ الوفاءِ من جديدٍ اليومَ بعدَ إحدى وثلاثينَ سنةً في سياقِ نيلِ الدُّكتورِ مازنٍ المباركِ جائزةَ مَجْمَعِ الملكِ سلمانَ العالميِّ للُّغةِ العربيَّةِ في مجالِ نشرِ الوعيِ اللُّغويِّ للعام (2025م)، ومن الجميلِ أن تشحذَ تلكَ الجائزةُ أقلامَ الأوفياءِ، مُباركينَ، مُهنِّئينَ،
ولا بدَّ هُهنا من التَّنبيهِ إلى أنَّ التَّرشيحَ للجائزةِ جاءَ عبرَ مجمعِ اللُّغةِ العربيَّةِ بدمشقَ، فلمْ يسعَ أستاذُنا المباركُ يومًا إلى جائزةٍ أو ما شابَهَ، وقدْ كُنتُ هاتفتُهُ قبلَ سنةٍ ونيّفٍ أُخبرُهُ بالإعلانِ عن إطلاقِ جائزةٍ مشابهةٍ للجائزةِ الَّتي نالَها، فما كانَ منهُ إلَّا أنْ أجابَني:« أنا لا أسعى وراءَ جائزةٍ! »، فقلتُ: أعلمُ ذلكَ، لكنَّني هاتفتُكَ لمّا قرأتُ أنَّ المجامعَ اللُّغويَّةَ معنيّةٌ بالتَّرشيحِ، لأستأذنَكَ في إبلاغِ المَجْمَعِ بها، لعلَّهُ يُرشِّحُ اسمَكَ بما ينطوي عليهِ من مسيرةٍ علميَّةٍ حافلةٍ.. إلخ، فقالَ: «إذًا، باركَ اللهُ بكَ!»، والحقُّ أنّي أباركُ اليومَ لجائزةِ مجمعِ الملكِ سلمانَ على براعةِ الانتقاءِ، وقد فازتْ بالعالِمِ بن العالِمِ؛ د. مازن عبد القادر المبارك.
ولمّا كانتِ الجائزةُ في بابِ نشرِ الوعيِ اللُّغويِّ، فلا بدَّ أن تحضرَ في الذِّهنِ سبعةُ عناوينَ ألّفَها أستاذُنا المباركُ في هذا البابِ؛ (نَحْوَ وعيٍ لُغويٍّ)، (اللُّغةُ العربيَّةُ في التَّعليمِ العالي والبحثِ العلميّ)، (مقالاتٌ في العربيَّةِ)، (الدَّعوةُ التَّامَّةُ)، (نظراتٌ وآراءٌ في العربيَّةِ وعلومِهَا)، (وهذا لسانٌ عربيٌّ مبينٌ)، (لُغويّاتٌ قرآنيَّةٌ)، وليسَ لي في هذا المقامِ الضَّيّقِ أن أعرِّفَ بكلِّ هذه العناوينِ، لكنَّني سأعرّفُ بكتابِ: (الدَّعوةُ التَّامَّةُ) الَّذي نُشِرَ سنة (2000م)، ولم يَحْظَ بهِ كثيرٌ مِن قُرَّاءِ هذا الزَّمانِ، عبرَ إيرادِ التَّقديمِ الَّذي دوَّنَهُ سماحةُ الشَّيخِ أسامة الرِّفاعيّ: « تفضَّلَ اللهُ تعالى على أستاذِنا الدُّكتورِ مازنٍ المباركِ حَفِظَهُ اللهُ تعالى، فألهمَهُ أن يتوجَّهَ إلى كلماتِ النُّورِ والهدى الَّتي اشتملتْ عليها عبادةُ الأذانِ، وحوّلَها النَّاسُ إلى عادةٍ، لا تلمسُ قلبًا، ولا تُحرِّكُ وجدانًا، فلم نَعُدْ نرى الآثارَ المعجزةَ الَّتي كانتْ تتحقَّقُ في نفوسِ السَّلفِ من سماعِ تلكَ الكلماتِ،…، لم يكنْ هذا الكِتابُ الزَّادَ اللُّغويَّ والأدبيَّ فحسبُ، بل ثروةً روحيَّةً فيّاضةً حملتْها من قلبِ المؤلِّفِ الثَّريِّ بالصِّدقِ والحماسةِ كلماتُ هذا الكِتابِ لتغزوَ قلوبَ القارئينَ، وتسلكَ بها مَسالكَ أفئدةِ السَّلفِ في التيقُّظِ والفَهمِ».
وعلى أنَّ النِّتاجَ الخاصَّ بالوعيِ اللُّغويِّ يمثّلُ شيئًا من نتاجِ العلَّامةِ المباركِ الممتدِّ تأليفًا وتحقيقًا في النَّحوِ، والبلاغةِ، والنَّقدِ، والأدبِ، والتَّعريفِ بالرِّجالِ، وكُتبِ الذِّكرياتِ الدِّمشقيّة، وغيرَ ذلكَ ممَّا يحتاجُ إلى كُتبٍ تُعرِّفُ بأهمِّيَّتِهِ، على تعدُّدِ الجُهودِ الَّتي قصدتْ ذلكَ، فالحقُّ أنَّ ثمَّةَ نِتاجًا آخرَ للعلَّامةِ المباركِ، يُوازي هَذَا النِّتاجَ التَّأليفيَّ، يتلخَّصُ في تأليفِ الإنسانِ؛ أستاذًا، وباحثًا، ومُحقّقًا ثبتًا، وينطوي تحتَ هَذَا النِّتاجِ مئاتُ الرِّجالِ الأفذاذِ الَّذينَ درسُوا عليهِ عبرَ جامعاتِ الوطنِ العربيِّ، ولعلَّ من نعمِ اللهِ عليَّ أن شَرُفتُ بملازمتِهِ، وحضورِ مجالسِهِ، والتَّتلمُذِ عليهِ، فكانَ لي الجامعةَ بعدَ الجامعةِ، فتعرّفتُ (فقهَ اللُّغةِ) في دروسٍ قدَّمَها في رحابِ الجامعِ الأمويّ، ينتقي فيها نصوصًا لأئمّةِ اللُّغةِ، فيقرؤُها، ويشرحُها، ويعلّقُ عليها، فكانَ بذلكَ أشبهَ بسفيرٍ ينقلُ لنا علومَ القُدماءِ والمُحدَثينَ والمعاصرينَ، ويَميزُ أمامَنا الرِّجالَ، كما علماءُ الجرحِ والتَّعديلِ، ويرسمُ لنا المنهجَ، لأجدَني على الطَّريقِ، ثُمَّ إنّي لازمتُهُ بعدَ ذلكَ، فكانَ أنْ عرَّفَني العَرَبيَّةَ ودمشقَ كما لم أتعرّفْهما من قبلُ، هكذا تعرَّفتُ مكانةَ الشِّيخِ الُمحدّثِ بدرِ الدِّينِ الحَسنيِّ في قلبِهِ، فسَرَتْ مَحبَّتُهُ إليَّ، وهكذا تعرَّفْتُ الأدباءَ والشُّعراءَ الدِّمشقيِّينَ؛ عليّ الطَّنطاوي، وأنور العطّار، ومحمَّد البزم، وخليل مردم بك، ونزار قبانيّ، ورجالات المجمع العلميِّ العربيِّ؛ من أمثال الأستاذِ الرَّئيسِ محمَّد كرد علي، والشَّيخِ عبدِ القادرِ المباركِ، والأستاذِ عزِّ الدِّينِ التَّنوخيِّ، وغيرِهم، كما تعرّفتُ أساتذتُهُ؛ ومنهم الأستاذُ سعيدٌ الأفغانيُّ، وأخوهُ الأستاذُ محمَّدٌ المباركُ، والشَّيخُ مصطفى الزَّرقا، والشَّيخُ المجمعيُّ محمَّدٌ بهجةُ البيطارُ، والدُّكتورُ أمجدُ الطَّرابلسيُّ، والأستاذُ شفيقٌ جبريُّ، كما تعرّفتُ أساطينَ العربيَّةِ في مصرَ ممَّنْ قابلَهم أو درسَ عليهم، أمثالَ الأساتذةِ أحمدَ حسن الزيات، ومحمود محمّد شاكر؛ أبي فهر، وعباس محمود العقّاد، وشوقيّ ضيف، وإبراهيم مصطفى، وطه حسين، ومصطفى السقا، وغيرهم، وما كانَ يعرِضُ له من مواقفَ طريفةٍ معهم، كما تعرّفتُ طبقةَ زملائِهِ، كالأستاذِ أحمدَ راتبٍ النفّاخِ، والأستاذِ عاصمٍ البيطارِ، والأستاذِ عبدِ الكريمِ الأشترِ، وأعضاءِ مجمعِ اللُّغةِ العربيَّةِ إلى يومِ النَّاسِ هَذَا، ليتآلفَ أمامي المشهدُ من الماضي إلى الحاضرِ، ولا يتَّسعُ المقامُ لتقصّيَ كلَّ الأسماءِ الَّتي لم تقتصرْ على اللُّغويّينَ، والعلماءِ، والأدباءِ، بل جاوزتْهم إلى عددٍ من القاماتِ الوطنيّةِ، ورجالِ الفكرِ والسِّياسةِ، فبدا لي أشبهَ بسفارةٍ تجتمعُ فيها العربيَّةُ ورجالاتُها على تنوُّعِ مشاربِهم وآرائِهم وأقطارِهم على امتدادِ القرنِ العشرينَ! وأشبهَ بسفرٍ دمشقيٍّ أصيلٍ تتآلفُ فيه التَّوجُّهاتُ الفكريّةُ، فلا تشتجرُ، أو تحتربُ، بل تتناغمُ، وتتماهى، وتنسابُ كالألحانِ، وليتَ أهلَ هَذَا الزَّمانِ يعونَ ذلكَ، وكَانَ لمشاربِهِ المُتنوِّعةِ الَّتي عَمَرتْ بها الشَّامُ، وتتلمذَ عليها أنْ شكَّلتْ خصوصيَّةً لوعيهِ وشخصيَّتِهِ المؤلِّفةِ للقلوبِ والألسنةِ، مُتضافرةً بذلكَ معَ ما اكتنزتْه بنوَّتُهُ لعالِمٍ لُغويٍّ جليلٍ وأسرةٍ حسيبةٍ كريمةٍ.
ومَنْ ثَمَّ كانَ السُّرورُ كلَّما لقيتُهُ، أو زرتُهُ، وكانتِ السَّعادةُ إذا زارَني، وكانَ العيدُ إذا أهدَاني نسخةً من كتابٍ صدرَ لهُ، أو أخبرَني عن مُحاضرةٍ يُلقيها، أو حدَّثَني عن شهادتِهِ على القرنِ العشرينِ؛ عصرِ التحَّوُّلاتِ السِّياسيَّةِ، والاجتماعيَّةِ والفِكريَّةِ الَّتي عاصرَ معتركَها، وخَبِرَ رجالاتِها، على مدى مئةِ عامٍ؛ حُلوِها ومرِّها، ولم يكنْ في كلِّ ذلكَ يناديني إلَّا (أخي)، على إِحدى وستّينَ سنةً بينَنا، بما فيها من معارفَ وعلومٍ وخبراتٍ وأسفارٍ وتجاربَ، وقد شرُفتُ بنقلِ كثيرٍ من الرَّسائلِ والملاحظاتِ والمقالاتِ اللُّغويّةِ الَّتي وجَّهني بنشرِها في الآفاقِ، وليسَ لي في هذِهِ السُّطورِ الُمحدَّدةِ القليلةِ أن أستقصيَ تجربتي معَ أستاذِي المباركِ، أو أن أعبِّرَ أوفى التَّعبيرِ عنها، فقد رافقَ كلَّ لقاءٍ بهِ الكثيرُ من الهوامشِ المعرفيَّةِ والرَّوافعِ القيميَّةِ والخبراتِ الحياتيَّةِ، بجمالِ أسلوبِهِ الَّذي يراوحُ بينَ غَيرتِهِ على العربيَّةِ وأهلِها وقيمِهم وبينَ الحِسِّ الفُكاهيّ الَّذي لا يفارقُه، ولو كانَ في حوارٍ هاتفيٍّ مُوجزٍ، فإذا كانَ نالَ الجائزةَ عن فرعِ نشرِ الوعيِ اللُّغويِّ، فهو حقيقٌ بنيلِ جائزةٍ أخرى لدورِهِ التَّعليميِّ التَّربويِّ البديعِ في صناعةِ الرِّجالِ، وكم توجّتْ عبارتُهُ البليغةُ المُوجَزةُ تينكَ الصَّنعتينِ معًا؛ «لا يبلغُ الوعيُ السِّياسيُّ ولا الوعيُ القوميُّ مَدَاهما ما لم يقترنا بالوعيِ اللُّغويِّ السَّليمِ».
د. مازنٌ مباركٌ
ابْنُ التُّراثِ ابْنُ الثَّقَافَةِ ابنُ دِمَشْقَ العَرِيقَةِ
سلام مراد
اللُّغويُّ والباحثُ والأديبُ السُّوريُّ العربيُّ، المُحبُّ للتُّراثِ، عضوُ مجمعِ اللُّغةِ العربيَّةِ.
وُلد في دمشقَ 1930م نشأَ في بيتِ أدبٍ وعلمٍ حديثٍ الشَّيخِ عبدِ القادرِ المباركِ أحدِ مؤسِّسي مجمعِ اللُّغةِ العربيَّةِ في دمشقَ.
نشأَ الأستاذُ مازنٌ المباركُ نشأةً علميَّةً، في بيئةٍ تحبُّ الأدبَ والتُّراثَ، وكانَ من أساتذتِهِ العالمُ اللُّغويُّ الشَّيخُ الأستاذُ سعيدٌ الأفغانيُّ.
واهتمَّ بالأستاذِ مازنٍ المباركِ أخوهُ أيضًا محمَّدٌ المباركُ، وكانَ من أساتذتِهِ، وتلقَّى العلمَ من نخبةٍ من الشُّيوخِ والأساتذةِ أمثالِ: بهجت البيطار وأمجد الطَّرابلسيّ وشفيق جبريّ ومصطفى الزَّرقا.
يعدُّ الأستاذُ مازنٌ المباركُ من أساتذةِ النَّحوِ والصَّرفِ والإعرابِ والمعاجمِ وعلمِ الجمالِ وفقهِ اللُّغةِ والبلاغةِ والإملاءِ والخطِّ، كما أنَّ له كتاباتٍ في الأدبِ والنَّحوِ والتَّربيةِ والتَّفسيرِ والفقهِ والنَّقدِ والتَّاريخِ، ويعملُ في التَّعريبِ والمصطلحاتِ المُعاصرةِ، والأستاذُ مازنٌ المباركُ هو عضوُ مجمعِ اللُّغةِ العربيَّةِ في دمشقَ، وهو مدرِّسٌ في جامعاتِ سوريَةَ ولبنانَ والسُّعوديةِ وقطرَ وأستاذٌ زائرٌ في جامعاتِ الجزائرِ.
وهَذَا التَّكريمُ هو تقديرٌ وتوجيبٌ لهذا الإنسانِ الَّذي أمضى أكثرَ سنواتِ حياتِهِ في الدِّراسةِ والتَّدريسِ وتحصيلِ العلمِ، لذلكَ كانَ مجمعُ الملكِ سلمانَ للُّغةِ العربيَّةِ هو من المؤسِّساتِ الَّتي تقدِّرُ الجهودَ والبحثَ والإبداعَ.
حصولُ الدُّكتورِ مازنٍ المباركٍ على جائزةِ نشرِ الوعيِ اللُّغويِّ وإبداعِ المبادراتِ اللُّغويَّةِ المُجتمعيَّةِ فئةِ الأفرادِ تقديراً لإسهاماتِهِ في خدمةِ اللُّغةِ العربيَّةِ تحقيقًا وتأليفًا والجوانبِ الفِكريَّةِ.
