على الأغلب ما يُعيد القارئُ الرِّوايّةَ إلى رفوفِ مكتبتهِ فورَ انتهائهِ من قراءتِها، لتغدوَ مع الوقت كتابًا منسيًّا في زاويةٍ ما، غيرَ أنَّ روايّةَ: (ساعات.. ساعات) لإسلام أبو شكيّر، الصَّادرة عن دائرة الثَّقافةِ في الشارقة تشرين الأوَّل 2025م، شكّلت لديَّ استثناءً نادرًا، إذ لم أستطعْ أن أتعاملَ معَها كما أفعلُ عادةً مع الكتبِ الأخرى؛ فلم أغلقْها بعدَ القراءةِ الأولى، وأتركْها؛ لتواجهَ ما واجهتْه مثيلاتُها من كتبي، بل وجدت نفسي أعودُ إليها مرارًا، أقرأ الفقرةَ أكثرَ من مرَّةٍ، وأتوقَّفُ عندَ كلِّ جملةٍ، وأحيانًا عندَ كلِّ كلمةٍ، مُحاولًا تفكيكَ ما تنطوي عليهِ من رموزٍ واقعيّةٍ وخياليَّةٍ نسجَ بها الكاتبُ عالمَهُ الرِّوائيَّ.
جاءتِ الرِّوايةُ الَّتي لا يتجاوزُ نصُّها المئةَ وأربعَ الصَّفحاتِ؛ لتمزجَ بينَ الواقعِ والخيالِ، ولتضعَ القارئَ أمامَ مرآةِ ذاتِهِ، ليكتشفَ كيفَ يتحوّلُ الإنسانُ في هذا المجتمعِ إلى كائنٍ متكرِّرٍ، متشابهٍ معَ الآخرينَ، محاصرٍ ضمنَ نمطٍ رتيبٍ، حتَّى مهاراتُهُ وأفكارُهُ تصبحانِ أرقامًا مُحايدةً، البطل، الرَّاوي كانَ الوحيدَ، الَّذي يراها، ويدركُها، بينما الآخرونَ محاصرونَ في رتابةِ حياتِهم، لا صوتَ لهم ولا حضورَ، إنّه استسلامٌ للقهرِ، مدجَّنٌ، يجعلُ الإنسانَ شيئًا بلا وزنٍ في هذا الواقعِ البائسِ، نلهثُ منذُ بدايّةِ يومِنا للالتحاقِ بأعمالِنا، نصادفُ وجوهًا متشابهةً، ونذوبُ نحنُ أيضًا في مياهِ هذَا التَّشابهِ.
إنَّه نصٌّ يتصدَّى لتجربةٍ وجوديَّةٍ تتأمَّلُ فكرةَ الفردِ داخلَ مجتمعٍ يشبهُهُ أكثرَ ممَّا ينبغِي، وتطرحُ أسئلتَها حولَ هُويَّةِ الذَّاتِ، حدودِ الاختلافِ، وطبيعةِ العلاقةِ بالآخرِ، إنَّها دعوةٌ للتوقُّفِ عندَ كلِّ ساعةٍ، كلِّ لحظةٍ، وكلِّ شخصيَّاتِ الرِّوايّةِ، والتَّأمُّلِ في التَّشابهِ، التَّكرارِ، والتَّشيُّؤ الَّذي يسكنُ عالمَ ساعاتٍ.. ساعاتٍ.
زمنٌ متكرِّرٌ وأرقامٌ لقياسِ الفراغِ
يحضرُ الزَّمنُ في الرِّوايّةِ كهاجسٍ مركزيٍّ، لا بكونهِ سياقًا للأحداثِ بل كقوَّةٍ ضاغطةٍ تعيدُ إنتاجَ الواقعِ بصورةٍ عبثيَّةٍ، تتكرَّرُ «السَّاعاتُ» بلا معنًى، لتتحوَّلَ إلى رموزٍ لاستلابِ الإنسانِ داخلَ منظومةٍ زمنيَّةٍ لا تقودُهُ نحوَ التَّغييرِ بل إلى الدَّورانِ في حلقةٍ مفرغةٍ، كلُّ شيءٍ محكومٌ بتكرارٍ حسابيّ جامدٍ، حتَّى المشاعرُ والعلاقاتُ لا تنجو منهُ.
ليستِ الأرقامُ في النَّصِ علاماتٍ دلاليَّةً فحسبُ، بلْ أدواتُ قياسٍ للفراغِ الدَّاخليّ، عندَما يذكرُ الرَّاوي «السَّادسة والنَّصف»، فإنَّنا لا نكونُ أمامَ وقتٍ فعليٍّ بل أمامَ لحظةِ وعيٍ بالجمودِ، وعيٍ «السَّاعةُ لا تدقُّ إلا لتعلنَ عن موتٍ آخرَ فينا»، بهذا المعنى يتحوَّلُ الزَّمنُ إلى آلةٍ بيروقراطيَّةٍ، تحكمُ السَّيطرةَ على الإنسانِ بنظامٍ مغلقٍ لا يستطيعُ مغادرتَهُ.
الإنسانُ المقهورُ والاختفاءُ
في الرِّوايّةِ يتبدّى الأثرُ الكافكاويُّ بوضوحٍ في بنيةِ العالمِ السَّرديّ، وفي إحساسِ البطلِ بأنَّه مهدِّدٌ بالاختفاءِ ومطاردٌ وقلقٌ دونَ سببٍ مفهومٍ، إنَّ العبارةَ: «أحدهم اختفى» الَّتي من أجلِها استدعى ضابطُ الشُّرطةِ البطلَ؛ ليبلغَهُ إيَّاها كانت مفتاحَ الرِّوايةِ، ورُبَّما هي رؤيتُها الأولى والأخيرةُ عن مصيرنا الإنسانيّ في هذا الواقعِ…..
البطلُ هنا ليسَ فرداً بقدرِ ما هو نموذجٌ للإنسانِ المعاصرِ الَّذي تحاصرُه أنظمةٌ خفيَّةٌ- إداريَّةٌ، اجتماعيَّةٌ، رقميَّةٌ، تجرِّدُه من ملامحِهِ، إنَّه يعيشُ في عالمٍ يتضاعفُ فيه التَّشابهُ، حتَّى يصبحَ الآخرونَ نسخًا عنهُ، ويغدو هو نفسُه نسخةً بينَ نسخٍ عديدةٍ.
رُبَّما “كافكا جعلَ من البيروقراطيَّةِ آلةَ طحنٍ للذَّاتِ”، أمَّا إسلام أبو شكيّر فينقلُ هذا الهاجسَ إلى بنيةِ ما بعدَ حداثيّةٍ، حيثُ لا سلطةَ واضحةً، بل مجتمعٌ يسودُهُ التَّشابهُ إلى حدِّ الاختناقِ، فالاختفاءُ في الرِّوايةِ لا يتمُّ قسراً، بل يتحقَّقُ بتدرُّجٍ باردٍ: حينَ يصبحُ الجميعُ مُتشابهينَ، يختفي الاختلافُ، ومَمْ ثُمَّ يختفي الإنسانُ نفسَهُ.
الإنسانُ في مواجهةِ مصيرِهِ
يتجلّى الحسُّ المأساويُّ في النَّصِّ في تعاطفِ الكاتبِ مع مصيرِ الإنسانِ الفردِ وسطَ انهيارِ الحدودِ الفاصلةِ الَّتي تجعلُهُ مُغايراً للآخرينَ، فنجدُ الرَّاويَ يكتبُ من حافَّةِ اليأسِ، من زمنٍ تتلاشَى فيهِ المعاني الكبرى، ويستسلمُ فيه الإنسانُ لفكرة التَّكرارِ الأبديّ… أمَّا الوقتُ في الرِّوايةِ ليس حركةً، بل دورةٌ مُغلقةٌ أشبهُ بالسَّاعةِ الَّتي تدورُ عقاربُها دونَ أن تتقدَّمَ، وهنا يتجسَّدُ جوهرُ المأساةِ: الإنسانُ يعرفُ أنَّهُ يتلاشَى، ومعَ ذلكَ يُواصلُ التَّكرارَ كأنَّ لا مهربَ لهُ من قَدَرِهِ.
تشيُّؤُ الإنسانِ وتكرارُ النُّسخِ
يصلُ النَّصُّ في ذروتِهِ الفكريَّةِ إلى سؤالِ التَّشيُّؤ: كيفَ يتحوّلُ الإنسانُ إلى شيء، أو إلى رقمٍ داخلَ سلسلةٍ لا نهائيَّةَ منَ النُّسخِ؟
إنَّها لحظةُ ذوبانِ الإنسانِ داخلَ الجماعةِ، لحظة ُتلاشِي الفروقِ الفرديَّةِ تحتَ ضغطِ المُطابقةِ، حيثُ يُقاسُ الكائنُ لا بوعيهِ أو شعورِهِ، بل بمدَى انضباطِهِ في القالبِ العامِّ، وقد عبَّرَ الكاتبُ عن ذلكَ بقولِهِ: ”
» واحدٌ وعشرون جسدًا مُتشابهًا في البنيةِ والطُّولِ ولونِ البشرةِ وملامحِ الوجهِ يجلسونَ في أماكنِهم، البذلاتُ الرَّماديَّةُ نفسُها، وربطاتُ العنقِ البنفسجيَّةُ، والمغلَّفاتُ، والهالاتُ السُّودُ حولَ عيونِهم، والقلقُ الدَّاخليُّ. «
تشيُّؤُ الإنسانِ هنا ليسَ فعلًا خارجيًّا مفروضًا عليه، بل هو نتيجةٌ لخيارِهِ الصَّامت بالتَّماهي، ومن خلالِ بنيةِ السَّرد المراوغةِ، تتكاثرُ الشَّخصيَّات مثلَ انعكاساتٍ في مرآةٍ، فلا نعرفُ مَنِ الحقيقيُّ؟ ومَن الظُّلُ؟ هذا التَّضاعفُ ليسَ لعبًا سرديًّا بقدرِ ما هو تجسيدٌ لفقدانِ الهُويَّةِ في عالمٍ يبتلعُ الفردَ داخلَ تشابهٍ جماعيٍّ خانقٍ، فكما تتكرَّرُ السَّاعاتُ، تتكرَّرُ الوجوهُ، وتتكرَّرُ الحكاياتُ، إلى أن يغدوَ الإنسانُ «شيئًا» بينَ أشياءَ أخرى، لا يملكُ حتَّى امتيازَ الغيابِ.
ويتجلَّى الهاجسُ الوُجوديُّ في النَّصِّ في أكثرِ مظاهرِهِ قسوةً حينَ تفقدُ الأصواتُ والوجوهُ تمايزَها، ويغدوِ الجميعُ نسخًا عن بعضِهم، يكرِّرونَ الأقوالَ ذاتَها، ويتحرَّكونَ داخلَ الزَّمنِ كأنَّهم انعكاساتُ أشياءَ لا أصلَ لها، ففي مشهدٍ بالغِ الكثافةِ الدَّلاليَّةِ، يصفُ الرَّاوي حالةَ التَّماثلِ الصَّوتي قائلاً:
»كانَ من المستحيلِ تمييزُ مُتحدِّثٍ من آخرَ بالاعتمادِ على الصَّوتِ وحدَهُ، فالأحاديثُ كلُّها، برغمِ تنوِّعِها وسهولةِ بعضِها، كانتْ بلا حماسةٍ، بلا غضبٍ، بلا ابتساماتٍ، بلا أيّ انفعالٍ، فقطُ جملٌ تنزلقُ من الأفواهِ، كلُّ صوتٍ يعيدُ الصَّوتَ الَّذي سبقَهُ، هنا نتكلَّمُ بنبراتِ صوتٍ مُتطابقةٍ في أدقِّ تفاصيلِها«….
يأتي هذا التَّداعي في الرِّوايةِ ليعكسَ بُعداً رمزيًّا يختزلُ مأساةَ الإنسانِ المعاصرِ حينَ يُجرَّدُ من فرادتِهِ، فيغدوِ الصَّوتُ -رمزَ الهُويَّةِ الدَّاخليَّةِ- مُجرَّدَ صدًى لآخرينَ، لا يُعبِّرُ، ولا يختلفُ بهذا الشَّكلِ، يتحوَّلُ الحوارُ إلى تكرارٍ آليٍّ بلا روحٍ، ويغدوِ الصَّمتَ الكامنَ في نبراتِ التَّشابهِ أكثرَ تعبيرًا من أيّ كلامٍ، إنَّ هذا التَّماثلَ الصَّوتيَّ ليسَ تقنيةً أسلوبيَّةً فحسبُ، بل هو صورةٌ مصغَّرةٌ لآلية التَّكرارِ الوُجوديّ الَّتي تبتلعُ الأفرادَ، وتحوّلُهم إلى جماعةٍ مُتطابقةٍ فاقدةٍ للحرارةِ والانفعالِ والمعنَى.
اللُّغةُ والسَّردُ: بينَ البساطةِ والتَّجريدِ
تعتمدُ الرِّوايةُ على لُغةٍ متقشّفةٍ، لكنَّها مشحونةٌ بالدَّلالاتِ، الجملُ قصيرةٌ مشدودةٌ، كأنَّها أنفاسُ البطلِ المقطوعةُ، هذا الاقتصادُ في اللُّغةِ يُضفِي على النَّصِّ وقفةً تأمُّليَّةً، ويجعلُ كلَّ كلمةٍ تحتملُ أكثرَ من معنًى.
كما أنَّ البناءَ السَّرديَّ يقومُ على التَّكرار البنيويّ ليتَّسقَ مع رؤيةِ النَّصِّ الجوهريَّةِ، فالأحداثُ تدورُ على نفسِها؛ لتصنعَ إيقاعًا زمنيًّا يُعبِّرُ عن مأزقِ الإنسانِ المُتكرِّرِ، فلم يكنْ عبثًا أن يحملَ العنوانُ تكرارَ الكلمةِ نفسِها؛ لينسجمَ مع رؤيةِ الكاتبِ: (ساعات.. ساعات)، وليُعبّرَ عن صرخةٍ داخليَّةٍ على العدم، الرِّوايةُ لا تُقدّمُ حكايةً بالمعنَى التَّقليديِّ، بل تجربةً وجوديَّةً تتجاوزُ الحدثَ إلى التَّأمُّلِ في مصيرِ الإنسانِ في هذا العصرِ، وهو ما يجعلُها نصًّا أقربَ إلى الرُّؤيّةِ الفلسفيَّةِ منه إلى الرِّوايةِ الواقعيَّةِ.
لَيْسَ صَدًى لِصَوتِ كافكا
إنَّ روايةَ: (ساعات.. ساعات) تُمثِّلُ محطَّةً مُتقدِّمةً في مشروعِ إسلام أبو شكيّر السَّرديّ، وإضافةً مهمَّةً للرِّوايّةِ العربيَّةِ لما تنطوي عليهِ من جرأةٍ في البناءِ وعمقٍ في الرُّؤيّةِ، إنَّها نصٌّ عن الإنسانِ الَّذي يختفي دونَ أن يموتَ، ويتحوّلُ إلى نسخةٍ مكرَّرةٍ تذوبُ رقمًا في هذا الواقعِ دونَ أن يشعرَ.
وقد يلاحظُ القارئُ هُنا أنَّ أبو شكيّر من خلالِ هذا العملِ رُبَّما يُعيدُ إنتاجَ السُّؤالِ الوُجوديّ الَّذي شغلَ كافكا: كيَف يمكن للإنسان أن يظلَّ إنسانًا في عالمٍ ينفيهِ؟)، لكنَّهُ لا يُقدِّمُ الإجابةَ، بل يتركُ القارئَ في مواجهةِ ساعاتِهِ الخاصَّةِ، أمامَ مرآةٍ تتكرَّرُ فيها الوُجوهُ حتَّى تفقدَ فرادتَها ومَنْ ثُمَّ معناها، وهذا لا يعني أنَّ الرِّوايةً صدًى لصوت كافكا بل صدًى لرؤى إسلام أبو شكيّر الَّتي استطاعَ من خلالِها أنْ يكونَ هو.
في عالمِ: (ساعات.. ساعات)، لا أحدَ يختفي فعلًا، لأنَّ الجميعَ اختفُوا مسبقاً في ضجيجِ التَّشابهِ، في عالمٍ صارَ فيه الكائنُ شيئًا، والشَّيءُ بديلاً من الكائنِ، إنَّها روايّةٌ عن زمنٍ بلا بشرٍ، وبشرٍ بلا زمنٍ، حيثُ تدقُّ السَّاعاتُ لا لتقيسَ الوقتَ، بل لتعلنَ عن انقراضِ الإنسانِ تحتَ وطأةِ نسختِهِ.
