ميرنا أوغلانيان
لا أعلمُ لماذا عادَ بي اليومَ شريطُ ذكرياتي إلى أيَّام المدرسةِ، فاستحضرتُ أجملَ اللَّقطاتِ، وهي الأوقاتُ الَّذي كنتُ أقضيها في مكتبةِ المدرسةِ.
كانَ في مدرستنا مكتبةٌ تضمُّ عددًا هائلًا من كُتبِ الأطفالِ والرِّواياتِ ودواوينِ الشِّعرِ وكُتبِ الدِّراساتِ والتَّاريخِ، إضافةً إلى قسمٍ خاصٍّ للدَّوريَّات الأدبيَّةِ والعلميَّةِ مثل: «العربيّ» و»المختار» ومجلَّات الأطفالِ المصوّرةِ.
كانَ يُسمَحُ لنا بزيارةِ المكتبةِ في أوقاتِ «الفرصةِ» أو في حصصِ الفراغِ أو حتَّى في نهايةِ الدَّوامِ… كنَّا نسترقُ هذهِ الدَّقائقَ؛ لنرتادَ هذا المكانَ الجميلَ بما يحتضنُه من كنوزٍ، وكانتْ أمينةُ المكتبةِ سيَّدةً مثقَّفةً، موجودة دائمًا لترشدَ كلَّ طالبٍ إلى الكتابِ الَّذي يناسبُ مرحلتَهُ العمريَّةَ وهِواياتِهِ وتوجُّهاتِهِ، كما كانتْ تُوصينا بالمحافظةِ على الكتابِ في أفضلِ حالاتِهِ لحينِ إعادتِهِ مع نبذةٍ لا تتجاوزُ صفحةً واحدةً عمَّا قرأنَاه وفهمْناهُ.
أعترفُ أنَّ مكتبةَ المدرسةِ هي الَّتي كوّنتْ شخصيَّتي الثَّقافيَّةَ والأدبيَّةَ، وصقلتْها، وشرّعتْ أمامَها نوافذَ الاطِّلاعِ والاستزادةِ، استعرتْ منها قصصَ الأطفالِ ثُمَّ الرِّواياتِ والتَّرجماتِ وكُتبَ تاريخِ الأدبِ العربيّ، ودخلتُ إلى عالمٍ رحْبٍ وفسيحٍ هو عالمُ الأدبِ الَّذي كلَّما توغلّتُ فيه ازدادتْ رغبتي في استكشافِ المزيدِ.
إلَّا أنَّ ما يحزنُني اليومَ هو ما آلَ إليه واقعُ المكتباتِ المَدرسيَّةِ في بلدنا بعدَ أربعةِ عقودٍ من إهمالِ قطاعِ التَّعليمِ وإقحامِ شخصيَّاتٍ فاسدةٍ في مفاصِلهِ الأساسيَّةِ امتهنتِ التَّخريبَ لتحقيقِ مكاسبِها الشَّخصيَّة التَّافهةِ، إلى أنِ اضمحلَّتِ المكتباتُ المدرسيَّة، واختفتْ، وباتَ منصبُ أمينِ المكتبةِ ستارًا لموظَّفٍ وهميٍّ يتقاضَى راتبَه دونَ أداءِ أيّ واجبٍ أو التزامٍ أدبيٍّ أو أخلاقيٍّ.
أعلمُ أنَّ واقعَ مدارسِنا اليومَ محزنٌ بعدَ سنواتِ الحربِ الَّتي دمّرتْ كلَّ جميلٍ، وأعلمُ أنَّ جيلًا كاملًا من أطفالِنا اختُزلتْ مدرستُهُ بخيمةٍ أو بمدرسةٍ آيلةٍ للسُّقوطِ تفتقرُ إلى المقاعدِ المدرسيَّةِ وإلى البُنى التَّحتيَّةِ وشروطِ السَّلامةِ العامَّةِ.
إلَّا أنَّ نفحةَ تفاؤلٍ بدأتْ تُثلجُ صدري، وأنا أرى الجهودَ الكبيرةَ الَّتي تبذلُها وزارةُ التَّربيةِ في إعادةِ ترميمِ المَدارسِ وتزويدِها بالمعدَّاتِ ورفدِها بالكادرِ التَّعليميّ والإداريّ برغم المُعوِّقات الكثيرةِ الَّتي تبدأُ بالشَّأنِ الماديّ، ولا نعلمُ أين تنتهي..
ومع ذلكَ أرى أنَّ وجودَ مكتبةٍ في كلِّ مدرسةٍ أمرٌ ضروريٌّ، ولا يُعدُّ ترفًا، لأنَّنا إذا أردْنا أن نبنيَ جيلًا جديدًا واعيًا مُتنوِّرًا فعلينا تزويدُهُ بجرعةٍ ثقافيَّةٍ تُسهمُ في بناءِ وعيهِ وإدراكِهِ ونظرتِهِ إلى عالمِهِ المُحيطِ.
لا بدَّ من وجودِ خطَّةٍ وطنيَّةٍ لإعادةِ المَكتبةِ إلى حضنِ مَدرستِها، خطة تتضافرُ فيها الجهودُ بينَ المُؤسَّساتِ الثَّقافيَّةِ الرَّسميَّةِ والخاصَّةِ والكُتَّابِ والمثقَّفينَ لجمعِ أكبرِ عددٍ ممكنٍ من الكُتبِ والدَّوريَّات الَّتي تُقيّمُها لجانٌ مختصَّةٌ تبيِّنُ مدى صلاحيَّةِ وضعِها بينَ أيدي طلابِنا.
ولعلَّ مشروعَ تحدّي القراءةِ هو خطوةٌ من مسارِ هذا المشروعِ المُهمّ الَّذي يُمكنُ أن يُساهم فيه اتِّحادُ الكتَّابِ العربِ بشكلٍ كبيرٍ وملحوظٍ من خلالِ تقديمِ الكُتبِ اللَّازمةِ، وإن كانت إلكترونيَّةً، أو من خلالِ تنظيمِ ورشاتِ عملٍ للأطفالِ في مدارسِهم تُشجِّعُهم على القراءةِ، وتكتشفُ مواهبَهم وإبداعاتِهم الأدبيَّةِ.
بمشروعاتٍ كهذه تُبنَى سوريَا الجديدةُ المعافاةُ لا بمشروعاتِ الفتنةِ والتَّحريضِ وإثارة النَّعراتِ المُختلقةِ وإشاعةِ الأخبارِ الكاذبةِ والإشاعاتِ، فتوفيرُ كتابٍ لمكتبةٍ مدرسيَّةٍ اليومَ سيُثمرُ إبداعاتٍ يصبُّها رجالُ الغدِ في مصلحة هذا البلدِ الَّذي أثخنتْه الجراحُ، وآنَ لنا أن يداويَها تكاتُفُنا مهما كلَّفَنا الأمرُ..
