لينا كيلاني
سؤال مثير للاهتمام يدفعنا للبحث عن ماهية تلك العلاقة التي نشأت مؤخرًا بين مَنْ يكتب والذكاء الصناعي هذا الذي يملك عينًا مفتوحة تشبه نافذة واسعة تشرف على عالمٍ من المعرفة، والمعلومات الهائلة، والنصوص الأدبية التي تخزنها معادلاته الرقمية.. وإذا به يقفز في تطور لافت إلى أن يصبح مؤلفًا يرصف الكلمات للقصص والروايات، وينظم الأشعار، ويكتب المقالات، وهو ناقد أيضًا، وعلى أتم الاستعداد ليجيب عن كل ما يخطر في البال من تساؤل، أو سؤال.
وها هي كتابات جديدة أخذت تظهر على الساحة الأدبية والصحفية، ولا أسميها أدبًا، بات يسعفها الذكاء الصناعي بالمعلومة والكلمة، والجمهور المتلقي يستقبلها بترحاب وهو لا يفرِّق بين الذكاء البشري والآخر الصناعي.. والمنصات الإلكترونية تتيح بدورها فرصًا سهلة للنشر، والتواصل، والتعبير بطرق أكثر جاذبية، وسرعة في الوصول إلى أعداد لا حصر لها من القرّاء ومن الذين يميلون إلى الاهتمام بالمحتوى والمعلومة أكثر من التركيز على الجوانب الفنية والأدبية والإبداعية وما تنطوي عليه الرقمية من مظاهر خدّاعة لأجيال لا تتمتع إلا بثقافة سطحية، ولا تكتسب إلا معارف تكاد تكون متشابهة إن لم نقل موحدة بينها.
إنها فرصة اللص الأكبر الثمينة هذا الكائن الرقمي بقدراته الفائقة وذكائه المتنامي بعد أن نجح في سرقة فرص العمل، والوظائف، ليبرز على الساحة الأدبية لا كلصٍ بل كنجم أدبي جديد تفوق في براعته بينما هو يسرق الأفكار والعبارات من كل ما حُمل في جعبته من خوارزميات ليسعف بها مَنْ فقد الموهبة، وظل يحلم بأن يصبح كاتبًا، أو أديبًا، أو شاعرًا.. حتى غدا هذا الأمر موضوعًا مثيرًا للشك، والريبة والجدل حوله.
وبعد أن أصبح (الذكاء الصناعي) عقلًا يستطيع أن يكتب النصوص، وريشة تستطيع أن تخط الخطوط البارعة وتمزج الألوان، ويدًا مهارة تقوم بأصعب المهام ازداد القلق والخوف منه ومن برامجه الماكرة التي تبتكر إبداعًا، وتفكيرًا نقديًا.. إلا أن مزلقًا خطرًا يقع به كل مَنْ يعتمده في إنتاج نصوصه نثرًا، أو شعرًا، أو مقالة، ألا وهو ذلك التشابه الذي يرد في تلك النصوص بين أناس لا يجمع بينهم مكان، ولا زمان.. حتى أن برامج جديدة ظهرت لكشف الحقيقة وهي قادرة على أن تفرز النصوص، وتتعرف على النص الذي ينتجه العقل البشري، والآخر الذي يصدِّره ذاك الصناعي.
في عقود مضت وانقضت كانت السرقات الأدبية إذا ما كُشفت بعد جهد تشكل فضيحة مدوية لصاحبها، وتكاد تحجب اسمه عن التداول في الساحة الثقافية.. وها هي السرقات تعود هذه المرة بقوة إلى الساحات الثقافية، والصحفية، وغيرها، إلا أن التحقق منها لم يعد بالأمر العسير، فجولة سريعة على أي محرك بحث يأتيك بالخبر اليقين.. وها هي أيضًا هذه البرامج الجديدة التي طُرحت مؤخرًا تقوم بالمهمة ذاتها.. فهل من مغامرٍ جريء سيصرّ بعد حين على أن يلجأ إلى ذكاءٍ صناعي يجعل منه كاتبًا، ومؤلفًا، وناقدًا، وشاعرًا بعد أن خذله الذكاء البشري في أن يحقق ما يصبو إليه؟
إزاء هذا التحول الكبير في موازين النقد والأدب نتساءل: هل يمكننا التعايش مع هذا اللص الرقمي الماكر دون أن يفقد الأدب هويته ودون أن نسلّم له مفاتيح مستقبلنا، ودون أن نصبح عبيدًا للآلة لا شركاء معها.
إنها مصداقية الكلمة، ومصداقية التعامل مع الذات قبل التعامل الآخر هي التي سيكون لها حكم الفصل أمام إغراءات الرقمية التي تكاد تفتح لنا أبواب المستحيل، بينما تفتح معها في الوقت ذاته أبوابًا أخرى لما يسمونها الهلوسة المعلوماتية نتيجة عجز الذكاء الصناعي عن الوصول إلى ما يتعلق بالشعور البشري، والإحساس العاطفي ليأتي بما هو جديد لم يسبق تخزينه في ذاكرته.. فهل بعد هذا سننتصر للرقمية؟
***
(من ملف العدد 1925 من الأسبوع الأدبي)
