د. محيي الدين اللاذقاني
يكاد النقد الأدبي العربي القديم ينصب على السرقات الأدبية، فمن ابن سلام للآمدي للجرجاني لا حديث لأجدادنا الأفاضل المغرمين بالفضائح غير قصص فلان سطا على فلان، وعلان سرق قول علان حتى صار عندهم للسرقات أسماء، وقوائم تبدأ بالأخذ، والسطو لتصل للإغارة، وهي أخطر أنواع السرقات الذي يشير اليه طرفة بن العبد:
ولا أغير على الأشعار أسرقها
عنها غُنيت وشر الناس من سرقا
أحفاد هؤلاء الأجداد لم يكونوا أكثر منهم حبًّا بالفضيحة لكنهم كانوا أشطر في التلاعب باللغة، فسموا السرقة اسمًا براقًا خادعًا «التناص» وتحته عفشوا من الشعر والقصص والمقالات أكثر مما عفش جيش المخلوع من بيوت المهجرين.
صحيح أن النقد الغربي تعامل مع التناص كأدب تفاعلي بشكل مستقل عن السرقات، لكن الذين استوردوا المصطلح من الثقافة الفرنسية التي ينسبون إليها كل شيء بما فيها قصيدة النثر توسعوا في مفهوم التناص أيضًا أكثر مما توسع جيش المخلوع في تزيين المسروقات، وشرعنتها، وإقامة أسواق لها.
ومع هذا الصنف الذي يحلل كل شيء لم يكن عجيبًا في سياق خلط السرقات الأدبية بالتناص أن يصدر كتابًا كاملًا عن سرقات أدونيس في تسعينيات القرن الماضي للناقد كاظم جهاد بعنوان: «أدونيس منتحلًا» صدرت منه طبعات عديدة لاحقًا، ويوثق فيه الناقد العراقي ما سرقه الشاعر السوري حرفيًا من سان جون بيرس، وبونفو، وجيرار بونو، وغيرهم من أساطين الأدب والأعلام الفرنسيين.
على أيامنا صارت القضية أخطر، وأكثر انتشارًا، فالذكاء الاصطناعي هذه الأيام يؤلف نيابة عن كتاب كثر، والمشكلة ليست في عدّ توليفاته سرقة أدبية محرمة بل محللة بل المشكلة كما أراها أن الذكاء الاصطناعي يؤلف أفضل بكثير من الكتاب الجدد الذين يدخلون الميدان دون أن يكونوا قد تسلحوا بموهبة، وبرصيد لغوي ممتاز ناهيك عن أصالة التجربة.
وشئنا أم أبينا ستتحول السرقات بالذكاء الاصطناعي إلى قضية حساسة في سوق الأدب، وقد استخدمت «سوقًا» هنا لأن فئة كبيرة من الكتاب صارت تعترف بأن الأدب كأي سلعة يحتاج الى تسويق، ولأن هناك شركات كبرى تسيطر على السوق الرقمية، وستحاول إقناعنا غدا أن شيطنة الآلة كما حدث في فيلم ستانلي كوبريك «ملحمة الفضاء» ليس في مصلحة الإنسان.
وربما كانت علاقة الأدب بالذكاء الاصطناعي جديدة لنا لكنها قضية تُناقش منذ سنوات في الغرب، وهناك في جامعات عديدة مطبوعات وندوات وكتب حول هذه الظاهرة المستجدة أشهرها مجلة الأدب والذكاء الاصطناعي في جامعة كمبردج العريقة.
ولدى مناقشة هذه القضية بعمق يليق بها لا نستطيع إلا أن نقرّ أولًا بأن جوهر الإبداع، وأصالته ينبعان من روح الكاتب، والذكاء الاصطناعي يستطيع أن يؤلف، ويصحح، وينقح، ويصنع نصًّا مقبولًا من خزينه الهائل من الأساليب، والمعلومات لكنه لا يستطيع أن يبث الروح في النص كما يفعل الكاتب.
إن بعض البرامج مثلGrammarly-Prewriting Aid- GPT”» تستطيع أن تولد لك أفكارًا، أو تكتب لك نصًا مقبولًا، أو شبه مقبول كما تستطيع أن تساعد الروائي في بعض الحبكات، أو تطوير الشخصيات لكن كل ما تأتيك به من أفكار جاهزة هو مسروق من جهد الآخرين، ولا تستطيع مهما سوّغت، وزينت أن تنكر ذلك.
ولأن مشكلة الملكية الفكرية أخلاقية قبل أن تكون مادية لن يستطيع الكاتب المعتمد على الذكاء الاصطناعي أن ليسوّغ لنفسه بحجة أنه لم يطلع مباشرة على النصوص التي سرقها، أو حورها الذكاء الاصطناعي له، ودسها في نصه بمعرفته وبناء على طلبه.
وحين يكون هناك لص تكنولوجي يسرق أفكار الآخرين، وأساليبهم نيابة عنك، فهذا لا يعفيك من المسؤولية لكنه يخفف عنك نصف التهمة، وبدل أن يجعلك لصا كاملا يحيلك على نصف لصّ، أو مجرد مساعد لص.
ومن الآن وإلى أن تتم صياغة جديدة لقوانين الملكية الفكرية في عصر الذكاء الاصطناعي الخيار لك في أن تتعامل معه، أو ترفضه لكن تذكر دومُا أن السرقة مثل الشرف، فلا يمكنك أن تكون نصف شريف، أو ربع شريف، فكن خلوقُا وذكيُا، ولا تسرف في الاعتماد على كبير اللصوص الجدد، فهذا الذكاء الاصطناعي الذي توظفه لسرقة الآخرين سيوظفه الآخرون في كشف سرقاتك.
(من ملف العدد 1925 من الأسبوع الأدبي)
