خالد المحيميد
مشهدٌ من اللّجوء إلى تركيا
أذكر فيما أذكر..
عندما اشتدّ القصف على مدينتي، خرجنا بملابسنا، وما تيسّر حمله من الثّبوتيّات،
كنت أحمل في كل يد ولدًا من أولادي، وأجرّ زوجي الحامل، ومن ورائي صوت مُتَحَشرِجٌ ينادي: ” يا ابني اسحبني.. ما عاد أقدر أمشي” ……. إنّها أمّي.
ثوانٍ معدودةٌ تحت النّار،
” يا ربّ …. أترك مَن؟
واحدًا من أولادي؟
أم زوجي؟
أم أمّي؟
يا ربّ.. لو كان لي يدٌ واحدةٌ زائدة، واحدةُ فقط”
قلت: “يا أمّي تعلقّي بقميصي”
وسرت بهم جميعًا
كان أطول دربٍ مشيته في حياتي، مع أنّه لم يتجاوز عشرات الأمتار للوصول إلى السّيارة.
لجأنا إلى قرى إدلب، لكن كنّا
كالمستجيرِ من الرّمضاءِ بالنّارِ
قصفٌ شديدٌ بالطّائرات الحربيّة، لم تسلم منه إلّا أماكن الجيش الأسديّ البائد.
هنا … وفي لحظةٍ مصيريّة
*قرّرت اللّجوء إلى تركيا*
قابل والدي القرار برفضٍ قاطعٍ، وبعد عناءٍ طويلٍ أقنعته
“يا أبي.. نحن على وشك أن نفقدَ أمّي، القصف الجنونيّ أتعبَ قلبها، أرجوك….
” مشان أمّي بس… بعدين *هي كم يوم… ونرجع*”
بعد 14 عامًا* كان الرّجوع إلى سوريا في مشهَدٍ لا يقلُّ ألمًا عن مشهدِ اللّجوء: زوجي وأطفالي على باب منزلنا.أبي وأمّي على الطّرف المقابل في منزلهم.
الدّمع سيّد المشهد….
•أصغر أبنائي قال:
“بابا وين رايح وتاركنا لحالنا”
•أمّي مُتحدِّثةً بدموعها قبل لسانها قالت:
“مو اتّفقنا يوم دخلنا على تركيا سوا… ما نرجع إلّا سوا” (مع بعض).
•ولأنّه يعرف أنّه الوحيد الّذي يمدّني بالقوّة حينَ أضعف..
ظلَّ أبي متواريًا عن عيني خلفَ الباب، حتّى لا تكسرني دموعه.
•أمّا أنا..
فقد كان قلبي كمرآةٍ وقعت من الطّابق العاشر، لكن كنت أعلم أنّ انهياري في هذه اللّحظة، يعني انهيار ما تبقّى في قلوب أهلي من صبرٍ على هذه الغربة المُزمِنة، وربّما… إلغاء فكرة العودة بِرُمَّتها.
وقفت مكابرًا على ألمي، متظاهرًا بالبأس وقلت:
” بسيطة يا جماعة.. كلّها (كم يوم) وبتلحقوني إن شاء الله”
على بعد أمتارٍ قليلةٍ من المكان، ينهار الجبل الّذي أظهرته لهم،
ثمّ أعبر من الباب الّذي دخلت منه قبل 14 عامًا
حاملًا في عيوني دمعتين، فواحدةٌ فرحًا بالعودة إلى الوطن،
وأخرى ألمًا على فراق عائلتي.
كلّ ما تبديه الظّروف يقول: لا
وحده حبّ الوطن، من يقول في وجهها: نعم
أخشى ما أخشاه، أن تكون هذه الــ”كم يوم”
مثل تلك الــ”كم يوم” الّتي قلناها عندما خرجنا من الحياة إلى اللّجوء…
لكن.. السّؤال الجوهريّ هو:
هل “كم يوم” الوطن، مثل تلك الّتي أكلت أعمارنا في الغربة؟
(نشرت في العدد 1925 من الموقف الأدبي)