■ محمد منصور
لا تصنع الشعوب المقموعة، لحظات التغيير المصيرية في حياتها، بناء على التخطيط المدروس، ولا استناداً إلى دراسات مراكز الأبحاث، وتنظيرات المثقفين، وثرثرات المحللين الاستراتيجيين، وإنما على قوة هائلة من الألم والغضب الذي يولد الانفجار، ويصنع الثورات والانتفاضات، ويقود الناس إلى الخروج إلى الشوارع حاملة أرواحها على أكفها، بحثاً عن أفق لحياة قتلت فيها كل الآفاق والهوامش، ولم تعد صالحة لأدنى درجات العيش البشري الكريم.
وفي لحظات كهذه يجد الأدب نفسه في المواجهة، فهل يخوض امتحان التغيير مع الناس، أم يقف متفرجاً ومتأملاً ومتفحصاً حتى تتضح الرؤية، أو يراوح في مناطق رمادية انتهازية، رغم اتضاح الرؤية، منتظراً ما ستسفر عنه لحظة المواجهة بين القوى المحتجة والسلطة القامعة، كي يصوغ ملاحمه الوطنية الزائفة، التي تبقى كذلك حتى وإن مالت مع كفة الحق المنتصر، لأنها لم تنطلق من أصالة الرؤيا والموقف، بل البحث عن مكان مع المنتصر أياً كانت هُويّته.
وثمة من يرى في هذا الكلام اتهاما متسرعاً ومتجنياً ويفتقر إلى فهم روح النص الأدبي، على اعتبار أن الأدب ليس بياناً سياسياً، ولا تقريراً صحفياً أو رسالة تلفزيونية تنجز في خضم الأحداث، بل هو رؤية تتفاعل مع الأحداث بعمق وبطء، وقد لا تنضج بسهولة ولا حتى في زمن التغيير أو خلال سنوات مخاضه العسير، وهذا كلام لا يخلو من وجاهة بالطبع، لكن من قال إن الأديب يخوض امتحان التغيير من خلال نصه فقط، أو من خلال ما ينتجه من أدب وحسب؟
يتجسد الأدب في نصوص كتابه، كما يتجسد ويتألق أو ينحدر من خلال مواقفهم كذلك… وكم من أديب عزف عن مواكبة امتحان التغيير ومواكبة تحولاته كتابة، لكنه عاشه وأسهم فيه بمواقفه الشجاعة، ونبل انحيازه لأحلام الناس البسطاء وتخندقه معهم في الخندق ذاته، فكانت سيرته وشجاعته تلك أجمل إضافة لأدبه، بل جواز مرور خلود أدبه أحياناً.
فما قيمة الأدب الأناني، والأديب الذي يجلس ليثرثر في المقاهي في الوقت الذي كان يقصف فيه الناس الذين ينتمي إليهم بالبراميل المتفجرة، ويقتل الأطفال بالأسلحة الكيماوية؟ وما قيمة الأدب الذي يمجد القاتل الذي يقصف بطائراته مدن بلاده وقراها، أو يتواطأ معه، متنقلاً بين المهرجانات الأدبية والمنتديات الثقافية سفيراً له خارج البلاد، ومحاذراً إغضاب السلطة التي تقاوم التغيير وتريد أن تقيم حكمها الأبدي بسلسلة من المجازر وعمليات الحصار والتجويع والتهجير، واستقدام المليشيات الطائفية والجيوش الأجنبية لأنها لا تريد ان تعترف بحق الناس في صناعة مستقبل جديد، لا يكون فيه قائدنا إلى الأبد، الديكتاتور الذي يفوز في كل الانتخابات بنسب تسعينية، رافضاً أي شكل من أشكال المشاركة الشعبية الحقيقية، وناشراً صوره وتماثيله وتماثيل الأب والأخ على رقعة وطن تحولك أي كلمة معارضة أو اختلاف فيه إلى رقم في المسالخ البشرية.
لقد انقسم الأدب السوري في لحظة التغيير الأقسى والأهم في تاريخنا المعاصر وتوزع على معسكرين: معسكر الانتماء للقتلة والدفاع عن حقهم في قتل من يختلفون معهم وسحقهم وتشريدهم في أصقاع الأرض، ومعسكر خاض معركة التغيير بأدواته وكلماته ومواقفه الواضحة، فتشرد مع ملايين المتشردين، واغترب مع ملايين من اغتربوا عن وطنهم، حتى لا يكتبوا شهادة زور بحق شعب في لحظة مصيرية سيحاسبه عليها التاريخ، مثلما حاسب جون شتاينبك حين كتب مؤيداً الحرب الأمريكية على فيتنام ومباركاً لها، وعزرا باوند على مناصرته للفاشية وتمجيده لموسوليني.
لم تكن المسألة في الحالة السورية أبيض وأسود، ولم يكن المطلوب التأييد المطلق لمحاولة التغيير بكل ما انطوت عليها من أخطاء وتجاوزات أحياناً، بل كانت مسألة ضمير… فهل يحتمل ضمير الأدب، كتعبير جمالي عن قيم الحرية والحق والتمسك بكرامة الإنسان، أن تكون في صف القاتل والمستبد، مهما كانت ملاحظاتك على آليات التغيير ومساراته؟ هل يحتمل ضمير الأدب أو الأديب أن يكون في معسكر سلطة لم تترك أي هامش للحوار السياسي واختارت أن تواجه الأمل بالتغيير بالحل العسكري والأمني ووسم كل من يخالفها بالإرهاب والعمالة؟ وهل يعجز الأدب مهما اختلطت الأوراق، وكثرت التداخلات عن أن يرى الصورة الحقيقية، وأن يميزها كي لا يقف في الجانب الخطأ من التاريخ؟
إن هذا العدد من (الموقف الأدبي) هو محاولة للإجابة عن كل هذه التساؤلات، سواء عبر المقالات والدراسات التي تناولت الأعمال الأدبية التي صدرت، أم من خلال الشهادات التي كتبها لنا الأدباء حول واقع تجربتهم الشخصية خلال معركة التغيير، ولئن كنا نأمل أن نقدم للقراء شهادات من الأدباء الذين ناصبوا أحلام التغيير العداء، كي يشرحوا لنا مبرراتهم ورؤاهم فإن اصطفافاتهم السابقة جعلتهم في منأى عن أي مساهمة من هذا النوع… آملين أن يكون هذا العدد نواة في سجال حر وجريء يسهم في تقديم شهادة على عصر عشناه، وعلى أدب صح فيه قول نزار قباني:
الشعر ليـس حمامـاتٍ نطيرها نحو السماء، ولا ناياً.. وريح صبا
إنه غضـبٌ طـالت أظـافـره ما أجبن الشعر إن لم يركبِ الغضبا!
(افتتاحية العدد 650-651 من الموقف الأدبي)
رابط العدد على موقع اتحاد الكتاب العرب