د. فادي أوطه باشي
يكادُ عنوانُ هذا المَقالِ يُشكِّلُ جدلًا إشكاليًّا في صراعِ البحثِ عن الحقيقةِ والنَّصِ الحقيقيّ لمسرى التَّاريخِ بأحداثِهِ وشخوصِهِ والتَّأثيرِ المُهمِّ في ذلكَ على المجتمعاتِ ومُكوِّناتِهِ على مرِّ العصورِ.
وفي مراجعةٍ تاريخيَّةٍ عميقةٍ في عمليَّةِ البحثِ عن إجابةٍ لهذا السُّؤالِ، أعودُ لمراجعَ كثيرةٍ تدخلُ ضمنَ مسمَّياتِ التَّأريخِ والتَّوثيقِ من مختلفِ أنحاءِ العالمِ، حيثُ يضطرُّ الباحثُ هُنا، ولا بدَّ له من أن يراجعَ مراجعَ عديدةً وتوثيقاتٍ تاريخيَّةٍ مُتنوِّعةِ المشاربِ؛ ليصلَ إلى أقربِ ما يُمكنُ للحقيقةِ الَّتي قد يكونُ لها كذلكَ أيضًا منظارٌ مختلفٌ حسب رؤية الرَّائي، ومن كلّ ذلكَ تدخلُ نتيجةَ هذا البحثِ لتُشكِّلَ من جديدٍ وثيقةً تاريخيَّةً جديدةً.
وليأتي السُّؤالُ المُهمُّ من جديدٍ: مَنْ يكتبُ التَّاريخَ؟ هل يكتبُه فقطْ المُؤرِّخونَ؟ وهل نثقُ بشفافيَّةِ نتاجِهم مئةً بالمئةٍ؟
لهذا السُّؤالِ العميقِ مساراتُ بحثٍ ووجهاتُ نظرٍ مُتباينةٍ، لكنَّها منطقيَّةٌ وواقعيَّةٌ وخاصَّةً عندَما نسألُ أنفسَنا عن توثيقِ تاريخِ الثَّوراتِ، فكيفَ إن كانتْ هذهِ الثَّورَةُ هيَ الثَّورَةَ السُّوريَّةَ العظيمةَ؟
وفي هذه الحالةِ بالذَّاتِ ومن وجهةِ نظريّ ككاتبٍ روائيّ ثارَ على الظَّلامِ كباقي أبناءِ الثَّورَةِ بمختلفِ مَشاربِهم، أرى أنَّ القلمَ وإبداعَ الأدباءِ كانا كذلكَ سلاحًا فعّالًا في صمودِ هذه الثَّورَةِ وانتصارِها، كونه كانَ بلغةٍ أدبيَّةٍ تمازجتْ مع الذَّائقةِ الأدبيَّةِ لمختلفِ ميولِ القرَّاءِ، قد رصدَ ووثَّقَ بشكلٍ مباشرٍ وغيرِ مباشرٍ، وبلُغةٍ أدبيَّةٍ، أجزاءً مُهمَّةً من تاريخِ الثَّورَةِ وصورِها وحالاتِها الإنسانيَّةِ كأعمالٍ كثيرةٍ خلَّدتْ، ووثَّقتْ تاريخَ الثَّورَةِ، وكانَ من نتاجِهم الكثيرَ الكثيرَ، ويحضرُني هنا على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ أعمالٌ كثيرةٌ مثل:
القوقعة لمصطفى خليفة -لا سكاكينَ في المطبخِ لخالد خليفة -أيَّام في بابا عمرو لعبد الله المكسورِ، وعائدٌ إلى حلبَ -مدنُ اليمام لابتسامِ التريسي -وقصص اللَّيل لسوسن حسن -طبول الحبّ لمها الحسن، والأعمالُ الخالدةُ الجميلةُ للكاتبِ فواز حدّاد وقصص المبدع إسلام أبو شكير.. وبتواضعٍ روايتي: (الآتونَ من السَّماءِ)، وما تلاها في روايتي: (الكنيسُ المسروقُ)… والكثير الكثير من الأعمالِ الأدبيَّةِ بمختلفِ صنوفِها، كانتْ شاهدةً على التَّاريخِ وكاتبُها شهيدًا في مِحرابِ الحقيقةِ.
ومن كلّ ذلكَ كانتْ صنوفُ الأدبِ بتنوِّعها وخاصةً على امتدادِ عمرِ الثَّورَةِ السُّوريَّةِ من القصَّةِ والمسرحِ والرِّوايةِ وخاصَّةَ الرِّوايةَ التَّاريخيَّةَ أو الَّتي حملتْ توثيقًا تاريخيًّا ما، كانتْ تُمثِّلُ وتُؤكِّدُ الدَّورَ المُهمِّ للأدبِ في توثيقِ التَّاريخِ والمنعِ من تزويرِهِ وخاصَّةً في هذهِ الظُّروفِ الَّتي يعيشُها العالمُ من التَّخبُّطِ في نظرِهِ لمجرياتٍ الثَّورَةِ وأحداثِها الَّتي كانَ طيورُ الظَّلامِ يُحاولونَ تزويرَ حقائقِها وتشويهَها.
ومن هنا كانتِ الرِّوايةُ تمثِّلُ توثيقًا تاريخيًّا حقيقيًّا وخاصَّةً عندما كانَ القارئُ يقرأُ تلكَ الجملةَ على ظهرِ غلافِ رواية ما (… هذه الرِّوايةُ مستقاةٌ من وقائعَ حقيقيَّةٍ).
ولكنْ ومع كلِّ ذلكَ وللأمانةِ العلميَّةِ فالرِّوايةُ هنا حتَّى وإنِ اعتمدتْ على التَّاريخِ في سياقِها، فهي كذلكَ ليستْ تأريخًا، وكذلكَ أيُّ نصٍّ أدبيٍّ آخرَ، ولكن –وهنا النُّقطة المُهمَّة- مع مرورِ الزَّمنِ يمكنُ العودةِ إلى النَّصِّ الأدبيّ والتَّعاطي معَه كوثيقةٍ دالَّةٍ على بعضِ ملامحِ العصرِ الَّذي ظهرتْ به، ووجودُ التَّوثيقاتِ التَّاريخيَّةِ في الرِّوايةِ والعملِ الأدبيّ عمومًا يأتي في سياقِ الرِّوايةِ، والسَّردُ التَّاريخيُّ أحيانًا يأتي لموضعةِ بعضِ الشُّخوصِ والأفكارِ من خلالِها والَّذينَ عاشُوا في مراحلَ تاريخيَّةٍ معيّنةٍ… وهُنا يكونُ التَّوثيقُ والتَّأثيرُ بعيدَ المدى كونه يحتوي على اللُّغةِ التَّصويريَّة ِالمملوءةِ بمشاعرِ تلكَ الشُّخوصِ فيما عاشُوهُ في تاريخٍ ومكانٍ ما.
فالرِّوايةُ التَّاريخيَّةُ هُنا أو الَّتي تحملُ توثيقًا تاريخيًّا ما توثيقًا للجوهرِ ولروحِ الحالةِ، وهي تُمثِّلُ دورَ الأدبِ في حفظِ التَّاريخِ من التَّزويرِ… والأدبُ كذلكَ يُشكِّلُ وثيقةً تاريخيَّةً وثقافيَّةً وإنسانيَّةً، يُسجِّلُ تجاربَ الشُّعوبِ، ويعكسُ قيمَها، ويحفظُ هُويَّتَها.
لذلكَ أكادُ أجزمُ، وأنا من أنصارِ من أنَّ للأدبِ والفنونِ رسالةً -وليسَ فنًّا لمجرَّدِ الفنِّ- وخاصًةً في هذا العصرِ المتلاطمِ بأفكارِهِ كأمواجِ البحرِ العاتيةِ، وكلٌّ يحاولُ أن يحفظَ تاريخَهُ وهُويَّتَهُ وقضيَّتَهُ من الغرقِ.. فالأدبُ وسيلةٌ لإعادةِ صياغةِ التَّاريخِ بطريقةٍ إبداعيَّةٍ.
أجزمُ هُنا بكلِّ تأكيدٍ أنَّ للأدباءِ هُنا دورًا مُهمًّا في كتابةِ تاريخِ الثَّورَةِ بما عبرُوا عنه من كتابتِهم وسردِهم لقصصِ فرديَّةٍ أو شخصيَّاتٍ أو أحداثٍ أو معاركَ.
نعم يقولون إنَّ التَّاريخَ يكتبُه المُنتصرونَ.. وفي حالةِ الثَّورَةِ السُّوريَّةِ المُباركةِ كانَ كلُّ ثائرٍ قد وثَّقَ تاريخَ هذِهِ الثَّورَةِ بطريقتِهِ، والجميلُ هُنا أنَّ المُنتصرينَ ذاتَهم هُنا كانَ منهم أدباءُ هذهِ الثَّورَةِ حيثُ كانُوا شاهدينَ على هذا العصرِ وشهدائِهِ.
وسيأتي المُؤرِّخونَ بكلِّ تأكيدٍ لاحقًا رُبَّما بعدَ عصرٍ أو عصورٍ ليعودُوا إلى هُنا، إلى نتاجِ الأدباءِ الثَّوريِّ وتوثيقِهم لهذا التَّاريخِ النَّضاليّ بلُغةٍ أدبيَّةٍ إنسانيَّةٍ بليغةٍ، ليستقُوا من هَذا الفيضِ العميقِ بكلِّ معانيهِ وحقيقتِهِ حقائقَ مكتوبةً… وكذلكَ أصواتَ وصورَ من راحُوا.
وأنهي هذا المقالَ، وأنا أستشعرُ معَ كلِّ كلمةٍ أهمِّيَّةَ القلمِ وأهمِّيَّةَ الضَّميرِ الَّذي يحملُهُ مَنْ يخطُّ بهِ، وأستمعُ إلى صوتِ شاعرِ دمشقَ وياسمينِها نزار قبانيّ، وهو يقولُ:
مَا لِلْعُرُوْبةِ تَبْدُوْ مِثْلَ أَرْمَلَةٍ؟
أَلَيْسَ فِيْ كُتُبِ التَّارِيْخِ أَفْرَاحُ..
وَالْشِّعْرُ مَاذَا سَيَبْقَى مِنْ أَصَالَتِهِ إِذَا تَوَلَّاهُ نَصَابٌ وَمَدَّاحُ
حَمَلْتُ شِعْرِيْ عَلَى ظَهْرِيْ فَأَتْعَبَنِيْ..
مَاذَا مِنَ الشَّعْرِ يَبْقَى حِيْنَ يَرْتَاحُ؟
