رضوان السّحّ
الحديثُ عن الثَّورَةِ الَّتي أطاحتْ بنظامِ الأسدِ، هو حديثٌ عن عقودٍ من الاستبدادِ خرّبتِ المسارَ الوطنيَّ لنموّ الحياةِ الدِّيمقراطيَّةِ؛ وذلكَ بتعميمِ الفسادِ على مؤسّساتِ الدَّولةِ بدءاً بالمُؤسَّسة العسكريَّةِ والأمنيَّةِ الَّتي هيمنتْ على كلّ شيءٍ وانتهاءً بالتَّشويهِ العُمرانيّ لأقدمِ عاصمةٍ في الدُّنيا، وبينَ هَذا وذَاكَ تمَّ تفريغُ المُؤسَّساتِ من مُحتواها؛ فالجبهةُ الوطنيَّةُ التَّقدُّميَّةُ للأحزابِ السِّياسيَّةِ ليستْ بوطنيَّةٍ ولا تقدُّميَّةٍ؛ لأنَّها لا تحتوي على أحزابٍ بالأصلِ، وكذلكَ الأمرُ في الإعلامِ والثَّقافةِ؛ فالإعلامُ مكرّسٌ لتمجيدِ القائدِ المُلهمِ الخالدِ، ومراكزُ الثَّقافةِ المنتشرةُ في المدنِ والبلداتِ ليستْ إلا مخافرَ لضبطِ تسرّبِ الإبداعِ والفكرِ الأصيلِ.
إنَّ الحديثَ عن عقودِ الاستبدادِ هَذِهِ هو مُقدِّمةٌ ضروريَّةٌ للحديثِ عن الثَّورَةِ؛ لأنَّه حديثٌ عن موجباتِ هذهِ الثَّورَةِ وعن ضرورةِ قيامِها، وقدْ قامتِ الثَّورَةُ، وعشْنَا أحداثَها تظاهراتٍ واعتقالاتٍ ونزوحًا وهجرةً، ثمَّ عشْنَاها مواجهاتٍ مسلَّحةً ودمارًا هائلًا وتشرُّدًا وبؤسًا وانهيارًا اقتصاديًّا كبيرًا.
عاشَ المواطنُ السُّوريُّ كلَّ ذلكَ، وتابعَ صورتَهُ في الإعلامِ العربيّ والعالميّ؛ تابعَ نشراتِ الأخبارِ والمُحلِّلينَ السِّياسيِّينَ والأعمالَ الدَّراميَّةَ والأعمالَ الأدبيَّةَ من قصائدَ وقصصٍ ورواياتٍ… وسؤالُنا اليومَ في وقفتِنا القصيرةِ هَذِهِ سُؤالٌ قديمٌ يتجدّدُ: لماذا يلجأُ المتابعُ لأحداثِ ذلكَ الحراكِ إلى الأدبِ، ولا يكتفي بالتَّاريخِ؟ فالتَّاريخُ يقدِّمُ عرضًا كلاميًّا يصفُ الواقعةَ، وهذا العرضُ يتوافرُ له الدَّعمَ بالصُّورةِ السَّاكنةِ والمُتحرِّكةِ، كما يتوافرُ له التَّحليلُ من زوايا متعدِّدةٍ، أمَّا الأدبُ فيعمدُ إلى المجازِ والخيالِ، فهل يُعقلُ أن يكونَ التَّخييلَ والاستعاراتِ أقدرُ على وصفِ الوقائعِ، أو أكثرَ صِدقاً؟
على الرَّغمِ من أنَّني كنتُ مُتابعاً للحدثِ عبرَ وسائلِ الإعلامِ إلَّا أنَّني كنتُ شَغوفاً بأنْ أرى الحدثَ بعينِ الأدبِ، وعلى وجهِ الخُصوصِ بعينِ الرِّوايةِ؛ فقرأتُ أحداثَ عام 1982م، الَّتي عايشتُها في مدينتي حماةَ، في رواية: (السُّوريُّونَ الأعداءُ) لكاتبها فواز حدّاد، فعدُت فيها إلى معالمَ من حماةَ قد غابتْ، وعايشتُ أحداثَ المأساةِ، وكابدتُها مع أبطالِها، وقرأتُ روايةَ: (شهد المقابر) لمحمّد المير غالب الحائزة جائزةَ كتارا لعام 2017م، ورأيتُ المُواجهاتِ والمفارقاتِ شرقيَّ مُحافظةِ حماةَ بعد أن تسلَّحتِ الثَّورَةُ، وفي رواية: (الصّرماية) للمهنَّد النَّاصر قرأتُ العمقَ السِّيكولوجيّ لنذالة المُخبِرِ وإجرامِهِ؛ فرأيتُ ما لا يقدِرُ التَّاريخُ على رصدِهِ وإحيائِهِ، وتحتاجُ هذه الأعمالُ الرِّوائيَّةُ وغيرُها إلى احتفاءٍ خاصٍّ.
ويحسنُ في مقارنةِ عملِ المُؤرّخِ وعملِ الأديبِ الاستعانةُ بثنائيَّةُ: (الإشارة والعبارة) عند المُتصوِّفة، فهؤلاءِ القومُ قد كابدُوا مشكلةً ما تعجزُ العبارةُ عن حملِها، وليستِ الإشارةُ هُنا إلَّا لُغةَ الأدبِ مُقابلَ لُغةِ البحثِ أو لُغةِ العقلِ، الَّتي يستعملُها المُؤرّخُ في تسجيلِ الأحداثِ أو تحليلِها، فيقول الحلّاجُ: مَنْ لم يقفْ على إشاراتِنا لم ترشدْهُ عباراتُنا، لأنَّ الإشارةَ لا تقتصرُ على مُخاطبةِ العقلِ، بل تخاطبُ الإنسانُ بكلّيَّتِهِ؛ فتقدِّمُ للمخاطَبِ التَّجربةَ لمعايشتِها والانفعالِ بها، لا للنَّظرِ فيها وحسبُ، ولا يفوتُنا هُنا الإشارةَ إلى أعلامِ الفلسفةِ الوُجوديَّةِ الغربيَّةِ الحديثةِ من أمثالِ نيتشه وسارتر وكامو الَّذينَ لجؤُوا إلى الأدبِ للتَّعبيرِ عن فلسفاتِهم، وكذلكَ فعلَ المُتصوِّفةُ المُسلمونَ قبلَهم في اللُّجوءِ إلى الشِّعرِ والقصصِ، فالأدبُ إذ لا يقتصرُ على مُخاطبةِ العقلِ وحدَهُ، فإنَّه يتفادَى الوُقوعَ في فتحِ بابِ الحِجاجِ؛ فهو يُقدِّمُ مَقولتَهُ كدعوةٍ إلى الحياةِ، وليسَ كقضيَّةٍ يمكنُ تأييدَها أو رفضَها.
ونختمُ حديثَنا عمَّا يمتازُ به الأدبُ على التَّاريخِ، في مشكلةِ التَّعبيرِ، برأيٍ للمُعلِّم الأوَّلِ أرسطو في كتابه: (فنّ الشِّعر)، ومصطلح الشِّعر هُنا هو الأدبُ عامَّةً، نعرضُ بدايةً مقبوسَ أرسطو وفقَ ترجمة عبد الرَّحمن بدويّ: “الشِّعر أوفرُ حظًّا من الفلسفةِ وأسمى مقامًا من التَّاريخِ”، ووفقَ هذهِ التَّرجمةِ نرى تفضيلًا للأدبِ على التَّاريخِ، ولكنَّه تفضيلٌ غيرُ مُوضَّحٍ إلَّا بعبارة: (المقام) المبهمة، ونرى تفضيلًا آخرَ يثيرُ الاستغرابَ؛ فهل يُعقَلُ أن يُعليَ الفيلسوفُ قيمةَ الشِّعرِ على قيمةِ الفلسفةِ! لكنْ محيي الدِّين صبحي يحلُّ الإشكالَ إذ يقدِّمُ التَّرجمةَ على هذا النَّحو: “الشِّعرُ أكثرُ نزوعاً فلسفيًّا من التَّاريخِ”، فندركُ بذلكَ أنَّ أرسطوَ يريدُ أن يقولَ: الأدبُ أقدرُ من التَّاريخِ على تقديمِ المَغزَى والحكمةِ فيما يعرضُ من أحداثٍ.
