د. محمد زكريا الحمد
الحياة نهر جارف يجرفنا بتيّاره العنيف، والأدب جسورٌ تُبنى فوق أمواجه المتلاطمة لتعبر بنا من ضفّة الواقع الخشنة إلى ضفّة المعنى الناعمة. ليست هذه الجسور حجارةً صمّاء، بل كلماتٌ حيّة تتنفّس، تُرشدنا حين نضلّ الطريق، وتُحمّلنا حين تعجز أقدامنا، الأدب ليس رفاهية نخبةٍ متفرّغة، بل ضرورة وجودية تربط الإنسان بذاته وبغيره، بماضيه وبمستقبله. ما الذي يجعل كلمةً كُتبت قبل قرون تُزلزل قلبنا اليوم، وتُشعل فيه نارًا لم نعرفها؟ إنها قدرة الأدب على بناء جسورٍ خفية، تُحوّل الغريب إلى مألوف، والمجهول إلى مرآةٍ تعكس أعماقنا.
أوّل هذه الجسور هو جسر التعاطف، ذلك الجسر الذي يُدخلنا إلى حيوات الآخرين كما لو كانت حيواتنا الخاصّة. عندما نقرأ عن آنا كارنينا وهي تُمزّق قلبها بين الحبّ الممنوع والواجب الاجتماعي، أو عن أمّ فلسطينية تودّع ابنها في قصيدة شعبية مُثخنة بالألم، نُصبح نحن آنا، ونُصبح تلك الأمّ. يذوب الحاجز بين «أنا» و«الآخر»، ويُولد تعاطفٌ لا يُقدَّر بثمن. هذا التعاطف ليس مجرّد عاطفةٍ عابرة تذروها الرياح؛ إنه يوسّع دائرة الإنسانية، يُقلّل من الكراهية التي يُغذّيها الجهل، ويُكثّر من التسامح الذي يُبنى على الفهم. في عالم يتقلّص فيه الإنسان إلى رقمٍ في إحصائية أو صورةٍ على شاشة، يُذكّرنا الأدب بأن كلّ قصّة هي امتدادٌ لقصّتنا، وكلّ دمعةٍ في صفحةٍ قد تكون دمعتنا المكبوتة. من دون هذا الجسر، نظلّ غرباء عن بعضنا، نعيش في جزرٍ معزولة.
ثاني الجسور هو جسر الثورة، ذلك السلاح الخفيّ الذي يُشعل النار في القلوب قبل أن يُشعلها في الشوارع. الأدب ليس مجرّد وصفٍ للثورة؛ إنه شرارةٌ تُولّدها. في «1984م» لجورج أورويل، رأينا كيف تُسحق الروح تحت أحذية السلطة الشمولية، فاستيقظنا على قيمة الحرية الفردية وخطر الاستبداد الزاحف. وفي أدب الثورة السورية، حيث تكتب القصائد تحت القصف والروايات في المنافي، تحوّلت الكلمة إلى سيفٍ يقطع قيود الصمت ويُحرّر الأرواح. كلمةٌ كُتبت في زنزانةٍ مظلمة أو تحت أنقاض مدينة محاصرة ألهمت ثورةً شعبية، وروايةٌ مُنعت من النشر أصبحت نشيدًا للحرية يُردّد في التظاهرات. الأدب لا يُحرّر الأرض فحسب، بل يُحرّر العقل من أغلال الخوف؛ يُحوّل الألم إلى قوةٍ دافعة، والضعف إلى صمودٍ أسطوري. في زمن تُكمَّم فيه الأصوات بالقوانين أو بالمال، يظلّ الأدب صوتًا ثوريًا يدوّي عبر الأجيال، يُذكّرنا بأن التغيير يبدأ من فكرةٍ، وأن الثورة الحقيقية تبدأ في الضمير قبل أن تنتقل إلى الشارع.
ثالث الجسور هو جسر الاكتشاف الذاتي، تلك المرآة المُشعّة التي تُرينا أنفسنا بلا رتوشٍ أو زيف. قد تكتشف في بطلٍ فاشلٍ في روايةٍ قديمة جانبًا من ضعفك الذي تخفيه، أو في عاشقٍ مجنونٍ يُضحّي بكلّ شيء شغفك المكبوت الذي لم تجرؤ على الاعتراف به. الأدب لا يُجيب عن أسئلتنا الوجودية مباشرة، بل يُعلّمنا كيف نطرحها بجرأةٍ وصدق. في «البؤساء» لفيكتور هيغو، نرى جان فالجان يتحوّل من لصٍّ يائس إلى قدّيسٍ رحيم، فنبدأ رحلتنا الداخلية نحو التوبة والتغيير. الأدب لا يُغيّرنا من الخارج بقوانين أو وعود، بل يُوقظ فينا ما كان نائمًا؛ يُعلّمنا أن نكون أكثر صدقًا مع أنفسنا، وأكثر شجاعة في مواجهة ظلالنا الداخلية. من دون هذا الجسر، نظلّ نعيش على السطح، نرتدي أقنعةً لا تنتهي.
ثلاثة جسور –تعاطف، ثورة، اكتشاف– تُشكّل شبكةً متينة تُنقذنا من الغرق في سطحية الحياة اليومية. في كلّ مرة تقرأ فيها كتابًا، أنت تبني جسرًا جديدًا يربطك بالعالم وبنفسك. لا تتوقف عن القراءة، فكلّ جسرٍ يُقوّي الآخر.
