سعاد جروس
“رُبَّما كانَ يظنُّ كلُّ من تجاوزَ هذهِ المرحلةَ، ونجا بروحِهِ، ولم يشاهدْ أحداً يستشهدُ أمامَهُ، أنَّ الأمورَ مضتْ على خيرِ ما يُرامُ، ولكنْ ما حدثَ كانَ أشدَّ وأقسى من كلِّ التَّوقُّعات”.
وربَّما من لم يقرأْ ما دوّنَه الأديبُ عبد الرَّحمنِ عمَّار عن عبورِ أهالي القصير- حمصَ من “فتحةِ الموتِ” في رحلةِ تهجيرِهم القسريّ بعد اجتياحِ قوَّاتِ نظامِ الأسدِ وميليشيا حزبِ اللهِ للقصير 2013م لن يُقدِّر فظاعةَ الجرائمِ ولا فداحةَ الانكسارِ، ولا كيفَ للميَّتِ أن يحمل ميْتاً ليعبرَ فجوةَ المجهولِ؟ لولا ما كتبَهُ الأدبُ ما تحسَّسنا ما سطَّرَه الواقعُ، بعيداً من محارقِ نشراتِ الأخبارِ والتَّواصلِ الاجتماعيّ.
وكما لكلّ ثورةٍ كتّابُها وأدباؤُها كانَ للثَّورةِ السُّوريَّةِ أدباءٌ دوَّنوا وقائعَها، وحفظُوا حرارةَ مواجعِها، وإنْ تفاوتتْ أعمالُهم من حيثُ المستوى الإبداعيُّ أو وقوعُها في فخّ التَّوثيقِ على حسابِ الأدبِ، إذ إنَّ أهمِّيَّةَ تلكَ الأعمالِ تتمثَّلُ بالتقاطِ اللَّحظةِ الإنسانيَّةِ في سياقِ المفصَّلِ التَّاريخيّ، حينَ تلتهمُ والانقلاباتُ الجذريَّةُ “المعنى” مع كلّ تحطيمٍ للإنسانِ وشرخٍ للمجتمعِ.
أدبُ الثَّوراتِ يكونُ تدوينًا ومساهمةً في التَّوثيق حينَ يواكبُ الثَّورَةَ كحدثٍ متفاعلٍ، لكنَّه لاحقًا وبعد فاصلِ تبريدٍ زمنيّ على عاتقِ الأدباءِ تقعُ مسؤوليَّةُ تشريحِ الثَّورَةِ، وتقصِّي نتائجَها في النَّسيجِ الاجتماعيّ والنَّفسِ البشريَّةِ، وكتابةَ ما يُهملُ المُؤرِّخُ كتابتَهُ.
وإذا عدْنا الى: “ملحمةِ الموتِ والحياةِ” الَّتي دوّن فيها عبد الرَّحمن عمّار وقائعَ واحدةٍ من أكبرِ الملاحمِ الَّتي شهدتْها الثَّورَةُ السُّوريَّةُ في وقتٍ مبكرٍ من عُمرِها، وشكَّلتْ منعطفًا حاسمًا أطالَ أمدَ الصَّراع، في هذا العملِ يتوارى الأسلوبُ الفنِّيُّ تحتَ سيلِ الدَّمِ المُهراقِ على طولِ خطِّ النُّزوحِ منِ القصيرِ الى القلمونِ، ومآسٍ تعجزُ الرُّوحُ عن احتمالِ قسوتِها، ونهاياتٍ مُؤسفةٍ لأبطالٍ استثنائيِّينَ لم يسعفْهمُ الحظُّ بنيلِ جوائزَ دوليَّةٍ للشَّجاعةِ.
منهم ممرضةٌ أسعفتِ المصابينَ لشهورٍ طويلةٍ دونَ خوفٍ أو رهبةٍ أو تعبٍ، واستشهدتْ، وهي ترافقُ مُصابًا في طريقِ النُّزوحِ بقصفٍ مدفعيّ، ومنهم المُصوِّرُ الَّذي استُشهدَ؛ وهو يُوثِّقُ استشهادَ الآخرين، والأمُّ الَّتي قبَّلتْ جثمانَ طفلهاِ وودَّعته تحتَ صخرةٍ، وحملتْ طفلَها الآخرَ الحيَّ علّه ينجو، شخصياتٌ ولحظاتٌ فارقةٌ في مأساةٍ متفاعلةٍ رُبَّما تسقطُها معاييرُ النَّقدِ الأدبيّ، ككثيرٍ من الأعمالِ الأدبيَّةِ السُّوريَّة الَّتي رافقتِ الثَّورَةَ، بزعمِ أنَّها محضُ تدوينٍ، مع أنَّ ذلك لا يُقلِّلُ من أهمِّيَّةِ “التَّدوين الأدبيّ”، إذا صحَّ التَّعبيرُ، كونه “مرجعيَّةً وجدانيَّةً”، تُؤكِّدُ أهمِّيَّةَ مساهمةِ الأدباءِ في إعادةِ كتابةِ تاريخِ الثَّورَةِ، ولعلَّ ثورةً عظيمةً كثورةِ السُّوريِّينَ وتضحياتِهم العظيمةِ، وما طرأ على سوريا من تحوُّلاتٍ هائلةٍ، يستحقُّ من أدبائها التَّصدِّي لكتابةِ أعمالٍ كبيرةٍ أعمالٍ على مستوى أعمالٍ أدبيَّةٍ عالميَّةٍ مثل روايات تولستوي ومكسيم غوركي ونجيب محفوظ.
فهلْ نقرأُ عن سوريا في رواياتٍ تُنصِفُ السُّوريِّينَ جميعًا في عبورِهم التَّاريخيّ بين ثورتَينِ من 1918م وحتَّى 2025م؟ رواياتٍ تنفضُ الغبارَ عن الوطنيَّةِ السُّوريَّةِ، وتبحثُ في ملامحِ الهُويَّة ِالضَّائعةِ؟
