نور الدِّين إسماعيل
إنَّ المساهمةَ في بناءِ سرديَّةٍ وروايةَ التَّاريخِ ليستْ مسؤوليَّةَ المُؤرِّخين فقطْ، فهُناك دورٌ مهمٌّ للأدباءِ والكُتَّابِ في توثيقِ أحداثٍ مفصليَّةٍ من تاريخِ أممِهم، لكنْ بطريقةٍ وأسلوبٍ مختلفينِ عن طريقةِ المُؤرِّخ وأسلوبه ومنهجيَّتهِ الَّذي يعتمد المعلومةَ المُوثَّقةَ بتفاصيلِها الكاملةِ نقلاً عن مصادرِها مُتوخِّياً الدَّقةَ والمنهجَ الأكاديميَّ.
وبحسبِ ما يقالُ عن أنَّ “الكاتَب ابنُ بيئتِهِ” فإنَّه لا يمكنُ لكاتبٍ أن يكتبَ في بيئةٍ لم يعشْ فيها ويعاينها، سواءٌ كانتْ تلكَ البيئةُ جغرافيَّةً أو اجتماعيَّةً أو سياسيَّةً.
الكثيرُ من الأمثلةِ في الأدبِ العالميّ تُؤيِّد، وتدعمُ تلكَ الفكرةَ، فعلى سبيلِ المثالِ روايةُ: “الأمّ” لمكسيم غوركي تُعدُّ من أبرزِ الأعمالِ الأدبيَّة الَّتي وثّقتْ بداياتِ الثَّورَةِ الرُّوسيَّةِ على الحكمِ القيصريّ، وسلَّطتِ الضَّوءَ على نضالِ الطَّبقةِ العاملةِ ودورِ المرأةِ في الحَراكِ الثَّوريّ، وروايةُ: (الإخوة كارامازوف) لدوستويفسكي، وروايةُ: (البؤساء) لفيكتور هوجو الَّتي رصدتْ حياةَ النَّاسِ بعدَ الثَّورَةِ الفرنسيَّةِ، والتي تناولتِ الواقعَ الاجتماعيَّ من فقرٍ وظلمٍ في فرنسا خلالَ النِّصفِ الأوَّلِ من القرن التَّاسعَ عشرَ، ورُبَّما المثالُ الأقربُ والأشهرُ هو روايةُ: “القوقعة” للكاتبِ السُّوريّ خالد خليفة، التي تروي أحداثاً عاشَها الكاتبُ في سجنِ تدمرَ العسكريّ خلالَ فترةِ حُكمِ حافظ الأسد.
لكنْ تختلفُ طريقةَ الأديبِ في توثيقِ الحدثِ التَّاريخيّ، فهو يعتمدُ حدثاً يُلمُّ بتفاصيلِهِ، أو كانَ شاهداً عليهِ، ينطلقُ منهُ في بناءِ عملِهِ الأدبيّ، مُستخدماً خيالَهُ في بناءٍ نصِّه معَ الحِفاظِ على السَّرديَّةِ الَّتي يتبنَّاها، بعكسِ المُؤرِّخ الَّذي لا يمكنُ له تدوينَ تفاصيلَ مُتخيَّلةٍ، لأنَّ اعتمادَهُ الأساسيَّ على الحقيقةِ والمعلومةِ التَّاريخيَّةِ المُوثَّقةِ من مصدرِها.
هنا يمكنُ القولُ إنَّ الأدبَ قد يُعطي تصوُّراً عامّاً عن الحدثِ التَّاريخيّ، أو يمكنُ أن يضعَ القارئَ في الجوِّ العامِّ للمرحلةِ، مع بعضِ المعلوماتِ المُؤكَّدةِ، مُتنقلاً في مساحةٍ لا بأسَ بها من الخيالِ.
فيمكنُ للأديبِ أن يُقدِّم تصوُّراً عن حدثٍ ما مُستنداً إلى وقائعَ حقيقيَّةٍ، أو أن تكونَ بعضُ الشَّخصيَّات من الواقعِ، بينما يخلقُ الكاتبُ شخصيَّاتٍ أخرى خدمةً للعملِ الأدبيّ، لكنْ ليسَ بالضَّرورةِ أن يرويَ ذلكَ الحدثَ بحرفيَّتِهِ.
لكنْ هُناكَ نوعٌ آخرُ من الكتابةِ الأدبيَّةِ يمكنُ الاعتمادُ عليهِ كوثيقةٍ تاريخيَّةٍ، وهو السِّيرةُ الذَّاتيَّةُ، الَّتي تُمثِّلُ نوعًا من أنواعِ الكتابةِ الأدبيَّةِ بلسانِ كاتبِها عن أحداثٍ عاشَها أو عاينَها أو كانَ شاهداً عليها، وهو ما فعلَهُ النَّاشطُ الإعلاميُّ هادي العبد الله في كتابِهِ: (حالات حرجة) بجزأَيهِ الأوَّلِ المطبوعِ الَّذي يتحدَّثُ عن أحداثِ الثَّورَةِ السُّوريَّةِ حتَّى عام 2019م، وتابعَ في الجزءِ الثَّاني منذ عام 2019م حتَّى ما بعدَ التَّحريرِ وإسقاطِ النِّظامِ المخلوعِ، مروراً بأحداثٍ مُهمَّةٍ من تاريخِ الثَّورَةِ السُّوريَّةِ وشخصيَّاتِها، كعلاقتِهِ بطراد الزُّهوريّ ورائِدِ الفارس وحمود جنيد وخالد العيسى وغيرهم من ناشطي الثَّورَةِ السُّوريَّةِ.
فحينَ يكتبُ الأديبُ، هو لا يرسمُ الواقعَ بل يُعيدُ ترتيبَهُ، فيسلّطُ الضَّوءَ على ما أهملَه الآخرونَ، ويمنحُ صوتًا لمنْ لا صوتَ لهم، في روايةٍ واحدةٍ قد نرى مدينةً كاملةً بتاريخِها، بطبقاتِها الاجتماعيَّةِ، بأحلامِها وخيباتِها.
الأدبُ هو الواقعُ حينَ يُروَى من الدَّاخلِ، حينَ يتحوّلُ إلى تجربةٍ حيّةٍ، لا إلى خبرٍ عاجلٍ، إنَّه الواقعُ حينَ يُصبحُ إنسانيًّا، حينَ يُقالُ بلغةِ الحنينِ أو الغضبِ أو الأملِ.
وهكذا فإنَّ دورَ الأدبِ في نقلِ الواقعِ لا يَكمُنُ في التَّوثيقِ فقطْ، بل في التَّحويلِ، في تحويلِ الحدثِ إلى إحساسٍ، وتحويلِ اللَّحظةِ إلى ذاكرةٍ، وتحويلِ الإنسان ِإلى قصَّةٍ تستحقُّ أن تُروَى.
