أسامة منير إبراهيم
لماذا يضلُّ طريق التّرجمة إلى العربيّة ضوء الفائزين بنوبل للآداب؟
كيف يُصّفِّقُ قرّاء العربيّة لحاملي نوبل في الآداب
ولم يقرؤوا لهم بالعربيّة شيئًا
في كلِّ خريفٍ عندما يُعلَنُ اسم الفائز بجائزة نوبل للآداب، تهتزُّ السّاحة الثّقافيّة العالميّة، ويُعاد طرح السّؤال الأزليّ: من يستحقُّ أن يكونَ «صوتَ البشريَة» لهذا العام؟ غير أنَّ الصّدى، حين يصل إلى العالم العربيّ، يأتي على الأغلب باهتًا ومتأخِّرًا، وكأنَّ شيئًا ما في منظومة التّرجمة عندنا يعاني عمًى انتقائيًّا يمنع النّور من المرور.
غياب الحضور: حين يصبح العالم الأدبيّ من طرفٍ واحدٍ
منذ أن كانت العربيّة لغةً جامعةً للفكر الإنسانيّ، احتضنت نصوصَ الفلسفة والطبّ والفنون والآداب من الإغريق إلى الفرس والهنود، فصنعت جسورًا للحضارة، لكنّ المشهدَ الرّاهنَ يكشفُ تراجع هذا الدَّور؛ إذ باتت حركة التّرجمة العربيّة محصورة في دائرة لغويّة ضيّقة –الإنكليزيّة والفرنسيّة بالأساس– بينما تبقى لغاتٌ أخرى حاملةً لآدابٍ رائدةٍ، كالنّرويجيّة والمجريّة واليابانيّة، على هامش الاهتمام.
ولعلَّ أخطرَ ما يهدّد جودة هذا الجسر الثّقافيّ هو الاعتماد على اللّغة الوسيطة، إذ تُترجم النّصوص على الأغلب من نسخ إنكليزيّة أو فرنسيّة بدلًا من لغاتها الأصليّة، والنّتيجة نصوص «منقولة» بلا روح، تفقد في الطّريق ما يشكّل جوهرها الجماليّ والإنسانيّ، فالمعنى يصل، لكنَّ الحسَّ الإبداعيَّ يتبخّر، تمامًا كما تفقد اللّوحة بريقها حين تُنسخ عن صورةٍ لا عن الأصل.
جوائز نوبل الغائبة عن رفوفنا
أين الفائزون بنوبل في مكتباتنا؟
الجواب مؤلم أكثر مما نتصوّر.
لنأخذ مثلًا يون فوسّه، الكاتب النّرويجيّ الّذي حاز جائزة نوبل للآداب عام 2023م عن «مسرحيّاته النّثريّة الّتي منحت صوتًا لما لا يُقال»، هذا الصّوت الّذي غيّر شكل الكتابة المسرحيّة في أوروبا الحديثة لم يجد بعدُ من يترجمه إلى العربيّة ترجمةً مباشرةً، فلا وجودَ حقيقيًّا لأعماله في لغتنا، وكأنّنا أغلقنا النّوافذ أمام ضوءٍ جديدٍ قادمٍ من الشّمال.
والأمر لا يختلف كثيرًا مع الكتّاب الّذين يملكون حظوظًا كبيرة في نيل الجائزة مثل لاسلو كراسناهوركاي الّذي نالها البارحة، الكاتبُ المجريُّ الّذي أعادَ تعريفَ الرّواية الفلسفيّة الحديثة بلغةٍ آسرةٍ وكثيفةٍ، ويُعرَفُ كراسناهوركاي بأسلوبه الوجوديِّ والكابوسيِّ الّذي على الأغلب ما يركِّز على شخصيّات تعيش في عوالمَ منهارةٍ، ويكتبُ بجملٍ طويلةٍ ومتدفّقةٍ تخلق إحساسًا بالوحدة الزّمنيّة والمكانيّة، ويمثّل قوّة الرّواية الأوروبيّة التّجريبيّة في زمن ما بعد الحداثة، أدبُه وجوديٌّ، ويفيض بالرُّعب، ويُعَدُّ امتدادًا لأعمال كبار مثل كافكا، يُكافأ على إنجاز سرديّ هائلٍ ومختلفٍ بعيدٍ من الأساليب التّقليديّة.. لا تكاد المكتبة العربيّة تعرفه إلّا في إشارات عابرة، برغم أنَّ أعمالَه تُدرّس في جامعات أوروبّا وأمريكا بوصفها نصوصًا تأسيسيّة لعصر ما بعد الحداثة الأدبيّة، وترجمَ أعماله المترجمُ الشّاعرُ جورج سيرتش إلى الإنكليزيّة.
التّرجمة: مشروعُ وجودٍ لا مشروعُ لغةٍ
التّرجمة ليست مجرّد جسر للمعرفة، بل مشروع وجود ثقافيّ، إنَّ انغلاقَ المشهد العربيّ في حدود اللُّغات الكبرى يعكس خللًا في تصوّرنا لموقعنا في العالم، فحين نتجاهل الآداب القادمة من اللّغات «الهامشيّة»، نحن في الحقيقة نعيد إنتاج مركزيّة الغرب بلغتنا، ونحرم أنفسنا من تجاربَ إنسانيّةٍ قادرةٍ على توسيع وعينا بالذّات والآخر.
ولذلك فإنَّ استهدافَ أدباء من اللّغات النّادرة أو الثّقافات غير التّقليديّة لم يعد ترفًا ثقافيًّا، بل ضرورة إستراتيجيّة لاستعادة دورنا في الحوار العالميّ، تخيّل لو أنَّ أحدَ المترجمين العربِ تناولَ أعمال فوسّه من النّرويجية مباشرةً، أو قدّم ترجمةً دقيقةً لأدب شرق آسيا وإفريقيا النّاطقة بالبرتغاليّة، أو للآداب القادمة من أميركا اللاتينيّة بلُغاتها الأصليّة، عندها فقط سنكون جزءًا من «نصّ العالم» لا قارئًا متأخِّرًا له.
ما بعد نوبل: صوتُ الآخر ضرورةٌ لا خيارٌ
إنَّ التّرجمةَ الحقيقيَّةَ ليست فقط نقلَ كلماتٍ، بل مواجهةٌ مع المجهولِ، وتحوّلٌ من التّلقّي إلى الفعل، نحتاج إلى سياسة ثقافيّة عربيّة تُدرك أنَّ الاستثمارَ في التّرجمةِ من اللُّغاتِ الأصيلةِ هو استثمارٌ في مستقبل الثّقافة نفسها، تمامًا كما أدركت اليابان وألمانيا بعد الحرب أنَّ النّهضةَ تبدأ من ترجمة الفكر قبل صناعة الحديد.
فإذا كانت جائزة نوبل تحتفي بمن يكتبون للإنسان، فإنَّ مسؤوليتَنا أن نمنحَ هذا الإنسانَ صوتًا في لغتنا، إنَّ غيابَ ترجمة أدباء نوبل إلى العربيّة ليس مجرّد تقصير، بل فقدانٌ لصوتٍ من أصواتنا نحن في هذا العالم.
