منير الرفاعي
يبرزُ في المشهدِ الثَّقافيّ العربيّ الَّذي طالما شكا من ضعفِ حركةِ التَّرجمةِ وانتقائيَّتِها وفوضويَّتِها في كثيرٍ من الأحيانِ، اسمُ عبدِ الإلهِ الملاّح بوصفهِ أحدَ المترجمينَ السُّوريِّينَ القلائلِ الَّذينَ جمعُوا بينَ الدِّقّةِ الأكاديميَّةِ وسعةِ الأفقِ الإنسانيّ، والالتزامِ برسالةِ التَّنويرِ عبرَ الكلمةِ المنقولةِ من لُغةٍ إلى أخرى.
لم يكنِ الملّاحُ الَّذي أمضى أكثرَ من نصفِ قرنٍ من عمرِهِ بينَ الكتبِ والمخطوطاتِ يصغي إلى ثقافاتٍ عديدةٍ بعيدةٍ، يترجمُ فحسبُ، بل يُؤسِّسُ ذاكرةً عربيَّةً للمعرفةِ، ويبني جسرًا بينَ الحضاراتِ وصوتًا يذكّرُ بأنَّ التَّرجمةَ ليستْ عملًا تقنيًّا بل فعلُ إبداعٍ وروحٌ.
أمضى نحوَ ثلثِ قرنٍ من حياتِهِ عضوًا في اتِّحاد الكُتَّاب العرب في سوريا الَّذي ما زالتْ أروقتُهُ شاهدةً على ثقافتِهِ ودماثتِهِ وابتسامتِهِ الَّتي لا تفارقُ مُحيَّاه.
وُلِدَ الملاّحُ في حلبَ عامَ 1940م، وتكوّنَ في بيئةٍ معرفيَّةٍ مشبعةٍ بروحِ اللُّغاتِ والثَّقافاتِ، فدرسَ الإنكليزيَّةَ في كلِّيَّة حلبَ الأمريكيَّةِ، وانصرفَ منذُ مطلعِ شبابِهِ إلى العملِ الإعلاميّ والثَّقافيّ والتَّرجميّ، حتّى غدت التَّرجمةُ هُويَّتَهُ المهنيَّةَ والفكريَّةَ الَّتي وسمتْ أكثرَ من نصفِ قرنٍ من إنتاجِهِ.
مسارُ التَّجربةِ وبداياتُ التَّكوينِ
تدرّجَ الملاّحُ في مناصبَ مهنيَّةٍ عديدةٍ أتاحتْ لهُ أن يطلَّ على العالمِ من نوافذِ الصَّحافةِ والدّبلوماسيَّةِ والثَّقافةِ: من العمل الصَّحفيّ الثَّقافيّ في جريدتي: “الثورة” و“البعث” السُّوريَّتَينِ، إلى الإعلامِ الدُّوليّ في سفارتي ألمانيا والهنْدِ بدمشقَ، إلى عملِهِ خبيرًا ومترجمًا في مشروعاتٍ علميَّةٍ وتنمويَّةٍ.
كوّنتْ هذهِ التَّجاربُ المتنوِّعةُ خلفيَّةً معرفيَّةً ولُغويَّةً غنيَّةً، صقلتْ حسَّهُ التَّرجميَّ ومنحتْهُ القدرةَ على التَّعامل مع نصوصٍ تنتمي إلى طيفٍ واسعٍ من المجالات: من التَّاريخِ والفكرِ والفنِّ والاقتصادِ والسِّياسةِ، إلى الملحمةِ والأسطورةِ والعلومِ الإنسانيَّةِ الدَّقيقةِ.
منهجُهُ في التَّرجمةِ: بينَ الأمانةِ والتَّأويلِ
يتميّزُ الملاّحُ بمنهجٍ يتّسمُ بالوفاءِ للنَّصِّ الأصليّ دونَ الوقوعِ في الحَرْفيَّةِ، وبنزعةٍ تأويليَّةٍ راقيةٍ تُعيدُ بناء النَّصِّ في العربيَّةِ كأنَّه مكتوبٌ بها أصلًا.
مَن يطالعْ ترجماتِهِ لـهيرودوتِ أو المهابهاراتا أو الرَّامايانا يلحظْ كيفَ استطاعَ أن يمزجَ بينَ لُغةٍ عربيَّةٍ جزلةٍ متينةٍ وأسلوبٍ سرديٍّ واضحٍ ميسّرٍ للقارئِ، من دونِ أن يفقدَ الأثرَ الحضاريَّ أو الرُّوحيَّ للنَّصِّ المترجمِ.
وقدْ نالتْ ترجمتُهُ لكتابِ: تاريخ هيرودوت (هيئة أبو ظبي للثَّقافة والتَّراث، 2001 و2007م) ثناءً أكاديميًّا واسعًا، حتَّى اعتمدَها أساتذةُ التَّاريخِ القديمِ في العراقِ والجزائرِ مرجعًا رئيسًا لدقَّتِها المنهجيَّةِ وثراءِ حواشيها وتوثيقاتِها.
من النَّاحية اللُّغويَّةِ، تتَّسمُ ترجماتُهُ بسلامةِ الأسلوبِ ومتانةِ التَّراكيبِ، إذ يستخدمُ لُغةً عربيَّةً راقيةً خاليةً من التَّرهّلِ، ويوازنُ بينَ المصطلحِ الموروثِ والمُستحدثِ، ففي ترجمتِهِ لكتابِ: الوجيز في منظَّمة التَّجارة العالميَّة (2008م)، نجدُه يبتعدُ عن التَّرجمة الجامدةِ للمفاهيمِ الاقتصاديَّةِ، فيُوظّفُ مقابلًا عربيًا معاصرًا شفَّافًا يفهمُه القارئُ غيرُ المتخصِّصِ من غيرِ الإخلالِ بالدِّقَّة العلميَّةِ.
أمَّا في الأعمال الملحميَّة الكبرى كـالمهابهاراتا والرَّامايانا فقد أبدى قُدرةً نادرةً على نقلِ الأبعادِ الرَّمزيَّةِ والفلسفيَّةِ للنُّصوصِ الشَّرقيَّةِ إلى العربيَّةِ، مستعينًا بلُغةٍ تتراوحُ بينَ فخامةِ البيانِ وسلاسةِ السَّردِ القِصصيّ.
منجزٌ ثقافيٌّ واسعُ الأفقِ
تضمُّ قائمةُ الملاّحِ أكثرَ من ثلاثينَ عملًا مترجمًا مطبوعًا، تغطِّي مجالاتِ التَّاريخِ والأسطورةِ والسِّينما والعلاقاتِ الدُّوليَّةِ والعلومِ الإنسانيَّةِ.
ومن بينَ أبرز أعمالِهِ:
• تاريخ هيرودوت، أبو ظبي، 2001/2007م
• المهابهاراتا: ملحمة الهند الكبرى، دمشق، 1991/2002م
• ملحمة الرَّامايان، أبو ظبي، 2003م
• جراح كراوثورن: حكايةُ جريمةٍ وجنونٍ، وقاموس أكسفورد (2004م)
• قصَّة الدّيمقراطيَّة، جون دن، 2012م
• تكوين العالم الهنديّ– الإسلاميّ، أندريه وينك، 2013م
• مخطوطات فلورنسا: التَّاريخ العامّ لإسبانيا الجديدة، بيرناردينو دي ساهاغون، 2015م
هذا الاتَّساع في الموضوعات يدلُّ على ثقافةٍ موسوعيَّةٍ حقيقيَّةٍ، وعلى وعيهِ بأنَّ التَّرجمةَ ليستْ مُجرَّدِ نقلٍ لُغويّ، بل مشروعٌ تنويريٌّ يسعى إلى بناءِ الجسورِ بينَ الثَّقافاتِ.
فمن خلال ترجماته المتنوِّعة أسهمَ في تعريفِ القارئِ العربيّ بتاريخِ الشُّعوبِ القديمةِ وأساطيرِ الهند وذاكرةِ البحرِ في الخليجِ العربيّ والفكرِ الغربيّ الحديثِ والدَّراساتِ المعاصرةِ في الاقتصادِ والعلاقاتِ الدُّوليَّةِ.
أثرُهُ في الثَّقافةِ العربيَّةِ
لم يكنِ الملاّحُ مترجمًا فحسبُ بل صانعُ وعيٍ ثقافيّ جديدٍ، فقد اختارَ نصوصًا ذات بُعدٍ حضاريّ ومعرفيّ، تفتحُ للقارئِ العربيّ آفاقًا أبعدَ من السِّياسةِ الرَّاهنةِ أو الأيديولوجيا الضَّيِّقَةِ.
ولعلَّ الأثرَ الأكاديميَّ لترجماتِهِ يقدّمُ الدَّليلَ الأقوى على قيمتِها؛ إذ شكّلتْ مرجعًا موثوقًا في العديدِ مِنَ الدِّراساتِ الجامعيَّةِ والبحوثِ المحكمةِ، كما في أطروحاتِ الدُّكتور قيس حاتم الجنابيّ والدُّكتورة هدى ملاحيّ وغيرهما.
إنَّ هذا النَّوعَ من الأثرِ -الممتدِّ من القارئِ العامِّ إلى المتخصِّصِ الأكاديميِّ- قلَّ أن يتحقَّقَ إلَّا حينَ تكونُ التَّرجمةُ قائمةً على أساسٍ علميّ وموقفٍ ثقافيّ مؤمنٍ برسالةِ المعرفةِ.
ينتمي عبدُ الإله الملاّح إلى مدرسةِ التَّرجمةِ العالِمَة الَّتي جسَّدَها مِنْ قَبْلُ أعلامٌ كبارٌ مثلُ مُحمَّد عنانيّ غيرَ أنَّهُ تفرَّدَ بقدرتِهِ على الجمعِ بينَ التَّراثيّ والحداثيّ، بينَ الانضباطِ العلميّ والانسيابِ الأدبيّ، واتّسمتْ ترجماتُهُ عمومًا، وخاصَّة الأخيرةَ منها بنُضجٍ لُغويّ ورُؤيةٍ فلسفيَّةٍ واضحةٍ.
ولعلَّ أقربَ وصفٍ لأسلوبِهِ أنَّهُ ترجمةٌ منفتحةٌ ومثقَّفةٌ؛ لا تكتفي بنقلِ المعنى، بل تسعى إلى إحياءِ روحِ النَّصِّ في اللُّغةِ الجديدةِ.
تكريماتٌ ومسيرةُ وفاءٍ
نال الملاّحُ خلالَ مسيرتِهِ تكريماتٌ عربيَّةٌ ودوليَّةٌ، منها درعُ المجمعِ الثَّقافيّ في أبو ظبي (2004م) تقديرًا لجهودِهِ في إثراءِ المكتبةِ العربيَّةِ، إضافةٍ إلى تكريمِهِ من مدينةِ هيوستن الأمريكيَّةِ (1978م) بصفتِهِ مواطنَ شرفٍ وسفيرَ نوايا حسنةٍ.
غيرَ أنَّ القيمةَ الحقيقيَّةَ لعملِهِ لا تُقاسُ بالجوائزِ بقدرِ ما تُقاسُ بما تركَهُ من أثرٍ في القارئِ والباحثِ واللُّغةِ ذاتِها.
حينَ تصبحُ التَّرجمةُ فعلًا من أفعالِ الرُّوحِ
في سيرةِ عبدِ الإله الملاّح تتجسَّدُ صورةُ المترجمِ لا بوصفِهِ تابعًا للنَّصِّ، بل مؤلّفًا أصيلًا له في لُغةٍ أخرى.. وحياةٍ جديدةٍ.
كانَ يرى أنَّ التَّرجمةَ ليستْ نقلًا للحروفِ بل عبورٌ للرُّوحِ من ثقافةٍ إلى أخرى، وأنَّ المترجمَ الحقيقيَّ لا يكتفي بأن يكونَ وسيطًا بينَ لُغتينِ، بل شاهدًا على وحدةِ التَّجربةِ الإنسانيَّةِ في تعدُّدِها.
ولعلَّ هذا الإيمانَ هو ما جعلَ الملاّحَ يختارُ نصوصَهُ بعينِ الباحثِ عن الحكمةِ لا الباحثِ عن الشُّهرةِ، فينقلُ إلى العربيَّةِ أصواتَ الحضاراتِ البعيدةِ من الهندِ واليونانِ إلى الخليجِ والمتوسِّطِ؛ ليقولَ إنَّ الثَّقافةَ ليستْ ملكًا لأحدْ، بل ميراثٌ كونيٌّ مشتركٌ.
إنَّهُ واحدٌ من أولئكَ القلائلِ الَّذينَ فهمُوا أنَّ التَّرجمةَ، في جوهرِها، ليستْ مهنةً بل قدرٌ معرفيّ، وأنَّ المترجمَ حينَ يكتبُ بالعربيَّةِ ما قالَه الآخرونَ، فهو في الحقيقةِ يكتبُنا نحنُ- يكتبُ صورتَنا في مرآةِ العالمِ.