ياسر الظاهر
في خريف عام 2000م، استضاف فرع اتحاد الكتّاب العرب في دير الزور الناقد الدكتور قاسم مقداد لإلقاء محاضرة نقدية بعنوان: «القصة القصيرة في دير الزور».
وأذكر أن من بين العناصر التي تناولها الدكتور مقداد في تلك القصص عنصر الصدق الفني، وضرب مثالًا بقصة قصيرة قال إنها تفتقر إلى هذا الصدق الفني.
عند نهاية المحاضرة، وقف كاتب القصة التي تحدث عنها د. قاسم مقداد متأثرًا، وقال له بنبرة حادة:
“والله لقد كتبتها ودموعي كانت تنهمر على الورق.”
ابتسم الدكتور مقداد وأجابه بهدوءٍ لافت:
“صدقك لا شكّ فيه، لكنني كنتُ أتحدث عن الصدق الفني، لا الصدق الأخلاقي.”
مما جعل الحضور يستشف أن هذا القاص و(العديد من القراء أيضًا) لم يكن يفرق بين الصدق الأخلاقي والصدق الفني، وفي كثير من الأحيان كان يلتبس على قارئ القصة أو الرواية شخصياتهما وأحداثهما فيظنون أنها حقيقية، ولم يكن يدرك أنه منذ القرن الحادي عشر، كان مفهوم الصدق الفني موضوعًا محوريًا في النقاش النقدي، وقد تباينت حوله الآراء بين من يربطه بالقيم الأخلاقية، ومن يفصله عنها كما فعل عبد القاهر الجرجاني الذي ميّز بين الصدق الأخلاقي والصدق الفني، عادًّا الثاني هو القدرة على الإبداع والتواصل مع المتلقي وإثارة وجدانه والتعبير عن كل ما يعانيه ويكابده في مجتمعه،
أما النقد الحديث في بداية القرن العشرين، فيرى أن الصدق الفني هو التعبير الصادق عن انفعالات المبدع في لحظة الإبداع، بحيث يصبح العمل مرآةً لعصره وترجمانًا لوجدانه الجمعي، دون أن يكون بالضرورة سيرة ذاتية للمبدع ينقل فيها تجاربه الحياتية، بل فنًا موازيًا للواقع، فالعقاد عرفه الصدق الفني بقدرة الأديب على النفاذ إلى جوهر الموضوع.
أما الناقد محمد غنيمي هلال يرى: «أن الشاعر لا يلزمه أن يعيش التجربة ليعبّر عنها، بل يكفي أن يؤمن بها وتتحرك في نفسه حمياها»،
وكان المازني يرى الأدب الحق هو الذي يصوّر وجدان الإنسان وأحاسيسه في صدقٍ وحرارة، ويقدّم صورة حية للناس والحياة كما يراها الأديب.
ويؤكد طه حسين بدوره أن الصدق الفني هو أن يحسن الكاتب – شاعرًا كان أم ناثرًا – التجاوب مع مجتمعه والتعبير عنه بأسلوب حيّ وملائم.
إن الفنون الأدبية في جوهرها ليست نقلًا للواقع كما هو، بل إعادة خلقه بصدقٍ فني يعتمد على الخيال والرؤية والتأمل، ومرآة للعصر، وترجمانًا صادقا لهموم الشعب وقضاياه، ونصوصها الإبداعية ليست لقتل الوقت أو التسلية،
ولو كان الصدق الأدبي مجرد تسجيلٍ للواقع، لكانت ضبوط الشرطة أصدق نقلًا للواقع من جميع ما كتبه ويكتبه المبدعون.
(من العدد 1926 من الأسبوع الأدبي)