وأمّي تُحدِّث
حسن قنطار
السجية التي تكاد تنطق بها الجوارح كلها عندما يتباهى البعض بإنجاز الآخر، على لغة:
أولَئِكَ آبائي فَجِئني بِمِثلِهِم
إِذا جَمَعَتنا يا جَريرُ المَجامِعُ
لا تعدو أن تكون فقاعة توهم العين للحظة ثم تتلاشى في الفراغ.
كيف لي أن أكبر قدرك، وأتأثر بمسيرتك وأنت لم تنجز إلا ما تمتدح به الناجحين، وتتغنى بأمجاد الأولين، شأنك في ذلك شأن الأبواق التي روّجت وأخذت نصيبها أجرة واكتفت.
ومع هذا القصّ العجيب الذي قال به بعض العلماء في كتاب الله أقف على قوله تعالى:
{ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر}.
قال مقاتل، والكلبي: نزلت في حيين من قريش؛ بني عبد مناف وبني سهم، كان بينهما لحاء؛ فتعادوا.. السادة والأشراف أيهم أكثر؟ فقال بنو عبد مناف: نحن أكثر سيدًا، وأعز عزيزًا، وأعظم نفرًا، وقال بنو سهم مثل ذلك، فكثرهم بنو عبد مناف، ثم قالوا: نعد موتانا حتى زاروا القبور، فعدوا موتاهم فكثرهم بنو سهم؛ لأنهم كانوا أكثر عددًا في الجاهلية.
وقال قتادة: نزلت في اليهود، قالوا: نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان وبنو فلان أكثر من بني فلان، ألهاهم ذلك حتى ماتوا ضلالًا.
وعلى كلا التصنيفين فإنك لن تخرج من دائرة المهانة في مسيرة حياتك أيها المتكاثر بأمجاد غيرك.
والواجب العقلاني الذي يفرض سطوته عليك لتعدل إلى جادة الاستقامة والسداد والتأثير هو أن تضع بصمة لك في حياتك على أقل تقدير لتقول: هأنذا، وبذلك فلن تعيش الجاهلية المتناحرة، ولا اليهودية المتنافرة.
ضع بصمة تفتخر بها، وابدأ بتحديد نقاط قوتك واعمل على تطويرها، وثابر أن تكون إيجابيًا ومحفزًا لنفسك ولمن حولك، وذلك من خلال العمل الجاد والإتقان، وبناء علاقات قوية مع عائلتك، ومجتمعك، وكن شخصية إيجابية معطاءة بنّاءة.
ضع خارطة طريق أمامك واشتغل بكامل طاقتك لأجل تحقيقها.
كن واثقًا بنفسك وتقبل عيوبك ومحاسنك، فالصدق مع الذات هو أساس النجاح.
امزج بين الصدق والتفاؤل المحفز للعمل والاجتهاد، ليساعدك ذلك على تجاوز الصعوبات والوصول إلى أهدافك.
واختر صحبة لائقة بكل ما هو مستقيم، صحبة تعطيك ولا تمنعك، تدفعك ولا تنفّرك، تشجعك ولا تثبطك.
أخيرًا:
إذا أردت مرة أخرى أن تحدث الناس لترقى في أعينهم، وتكبر بينهم؛ فحدثهم عن إنجازاتك أنت، ولا تثرثر حول فعائل الآخرين؛ فإنك لن تُفيد ولن تستفيد.
كن ابنَ مَن شِئتَ واكتَسب أدبًا
يُغنيكَ محمودُهُ عنِ النّسَبِ
فليس يُغني الحسيبُ نسبتَهُ
بلا لسانٍ لَهُ ولا أدبِ
إنَّ الفتى مَن يقولُ ها أَنا ذا
ليس الفتى مَن يقولُ كانَ أَبي
أختم بهذه اللطيفة لأعود إلى البداية:
ذكروا أن رجلًا قدِم من غَزَاة، فأتاه جيرانُه يسألونه عن الخبر، فجعلت امرأته تقول: قَتَل من القوم كذا، وهَزَم كذا، وجُرِح فلان، فقال ابنها متعجبًا: أبي يغزو وأُمي تحدث!
(افتتاحية العدد 1926 من الأسبوع الأدبي)