محمد منصور
في مطلع تسعينيَّات القرن العشرين، برزَ اسمُ الأستاذِ عبد الإله في الوسط الثَّقافيّ السُّوريّ، حينَ أصدرَ التَّرجمةَ العربيَّةَ لملحمةِ: المهاباراتا، ملحمة الهند الكبرى.
وأذكرُ أنَّ الأستاذَ عبدَ الإله لم يكتفِ بترجمتِها، بل قامَ بإصدارِها على نفقتِه في طبعةٍ خاصَّةٍ أنيقةٍ… شكَّلت حدثًا في الوسط الثَّقافيّ في حينه، فقد كتبتْ عنها عشراتُ المقالاتِ والدَّراساتِ، الَّتي كانَ مبعثُها الاهتمامَ بالاطِّلاع على ملحمةٍ كبرى من ملاحمِ الأدبِ الآسيويّ عمومًا والأدبِ الهنديّ على وجهِ الخصوصِ… بعد أن كانَ اطِّلاعنا على هذا النَّوعِ من الأدبِ مقتصرًا على ملحمتي الإغريق الشَّهيرتين: (الإلياذة) و(الأدويسا) وملحمة الفرس الشَّهيرة: (الشَّاهنامة).
عدَّتِ المهابهاراتا أطولَ قصيدةٍ كُتبتْ على مرِّ العصورِ، وهي تقومُ على تسلسلٍ قصصيّ جمعَ الحقيقةَ الممكنةَ بالخيالِ الجامحِ المستحيلِ، واستدعي كائنات خُرافيَّة يسمّيها جرت على ألسنتِها الحكمُ والمواعظُ والإرشاداتُ الاجتماعيَّةُ والرُّوحيَّةُ وقواعدُ السُّلوكِ، ومن هنا كانَ مُدهشًا أن يقدِّمَ لنا الأستاذُ عبدُ الإله الملَّاح في ترجمتِه نصًّا سرديًّا سلسًا واضحَ السِّياقِ مشرقَ البيانِ والمعاني، تتألَّقُ فيهِ الحِكمةُ الهِنْديَّة برُوحِ اللُّغة العربيَّةِ… ولعلَّ هذا ما ميَّز ترجماتِ هذا الأديبِ والباحثِ والمترجمِ لاحقًا، إذ كثيرًا ما طوَّعَ رُوحَ النَّصِّ الأجنبيِّ لصياغةٍ تقومُ على فَهمِ بنيةِ اللُّغةِ العربيَّةِ وتتمثَّلُها.
تابعَ عبدُ الإله الملَّاح اهتمامَهُ بالملاحمِ الهِنْديَّة، فترجمَ بعدَ ذلكَ ملحمةَ: (الرَّامايانا) الَّتي صدرتْ عن المجمعِ الثَّقافيّ في أبو ظبي عام 2003م … وقبلَ ذلكَ كانَ قدْ قدَّمَ مفاجأةً لعشَّاقِ التَّاريخِ حينَ تصدَّى لترجمة كتاب: (تاريخ هيرودت) الَّذي أصدرَه المجمعُ الثَّقافيُّ في أبو ظبي في طبعتينِ… وكانَ له صدًى واسعًا، كونه أوَّلَ ترجمةٍ عربيَّةٍ لكتابِ: (التوَّاريخ) أو (الاستقصاء) للمؤرِّخ الإغريقيّ هيرودوت، الَّذي يُعرَفُ بأبي التَّاريخ… على حينِ يُشتهَرُ كتابُه الَّذي يُعدُّ أحدَ الآثارِ الضَّخمةِ في الثَّقافة الإنسانيَّةِ باسمِ: (تاريخ هيرودوت).
وبرغمِ انقطاعِ الصِّلةِ معَ الأستاذِ الملّاح بخروجي من دمشقَ عام 2011م، إلَّا أنَّ الصِّلةَ معَ ترجماتِهِ لم تنقطعْ خلالَ سنواتِ الثَّورة والاغترابِ، فقدْ دأبَ المجمعُ الثَّقافيُّ في أبو ظبي، على تبنّي ونشر إصداراته القيمة الَّتي تابعَ خلالَها نقلَ نفائسِ أدبِ الرِّحلاتِ إلى المنطقةِ العربيَّةِ، وكتب التَّاريخ كـ(مخطوطات فلورنسا: التَّاريخُ العامُّ لإسبانيا الجديدةِ)، و(تكوين العالم الهنديّ– الإسلاميّ، لأندريه وينك)، و (في الصَّحراء العربيَّة: رحلاتٌ ومغامراتٌ في شمال ِجزيرةِ العربِ 1908-1914م) لألويز موزيل، كانتْ رُؤيةُ اسمِ عبدِ الإله الملّاح على ترجماتِ تلكَ الكُتبِ في جناحِ المجمعِ الثَّقافيّ في أبو ظبي، في معرضِ الشَّارقةِ السَّنويّ للكتاب… علامةَ جودةٍ ومبعثَ ثقةٍ، ليسَ لجودةِ التَّرجمةِ وحسبُ بل لأهمِّيَّةِ الموضوعِ ورصانةِ المحتوى أيضًا… فلم يشغلِ الأستاذُ الملّاحُ نفسَه يومًا بترجمةِ كتابٍ تجاريّ سخيفٍ، لمُجرَّد أنَّه قد يكونُ رائجًا، كانَ الاختيارُ عندَه مسؤوليَّةً، كما التَّأليفُ نفسُه، ولهذا نأى باسمِه أن يُوضعَ على ترجمةِ كتابٍ لا يُضيفُ للمكتبةِ العربيَّةِ ولا لوعي القارئِ.
وليسَ هذا بغريبٍ على رجلٍ انتمى لأسرةٍ عريقةٍ من أسرِ حلبَ الشَّهباءِ، وتمثَّل قيمَ الطَّبقةِ الأرستقراطيَّةِ فيها، الَّتي لم تكتسبْ سمعتَها ممَّا امتلكتْه من مالٍ أو نفوذٍ بل من السُّمعةِ الأخلاقيَّةِ وعلوّ التَّحصيلِ العلميّ وعمقِ المساهمةِ المثمرةِ في الشَّأنِ العامِّ، لم يركنْ حفيدُ مرعي باشا الملّاح إلى مجد جدِّه الَّذي يُعدُّ واحدًا من أبرزِ الشَّخصيَّاتِ الإصلاحيَّةِ في نهاياتِ الحكمِ العثمانيّ وممثَّلَ حلبَ في مجلسِ المبعوثان، ناهيك عن الدَّورِ التَّأسيسيّ الَّذي قامَ بهِ في عهدِ حكمِ الملكِ فيصلٍ كمتصرِّفٍ لديرِ الزُّورِ وقائمقامِ الميادينِ والبوكمالِ، بلْ تابعَ الأستاذُ عبدُ الإله سيرةَ العائلةِ وسيرةَ بناءِ اسمِهِ اللّامعِ في عالمِ البحثِ والأدبِ والتَّرجمةِ… ومن حُسنِ حظِّ الثَّقافةِ السُّوريَّةِ أنَّهُ وَرِثَ هاجسَ التَّرجمةِ لولديه عمرو ودينا، فبرزا في مدرسة البحث عن العنوانِ المهمِّ لكُتبِهم المترجمةِ نفسِها والأسلوب العلميّ في التَّرجمةِ والحرصِ على الجودةِ والدقَّةِ في بناءِ المرجعيَّةِ الثَّقافيَّةِ… ولهذا عُدَّتْ ترجمتُهما لكتابِ المُؤرِّخة الأمريكيَّةِ ليندا شيلشر: (دمشقُ في القرنينِ الثَّامنَ عشرَ والتَّاسعَ عشرَ) الَّتي صدرتْ عام 1998م، إضافةً مهمَّةً للكتبِ الَّتي تناولتْ تاريخَ دمشقَ، ومساهماتِ العائلاتِ السِّياسيَّة فيها…. وإنِّي لأذكرُ أنَّ الجلساتِ الَّتي جمعتْنا في بيتِ الأستاذِ الملَّاح قبلَ رُبعِ قرنٍ من الزَّمنِ مع أسرتِه الكريمةِ وزوجِه المربِّيةِ الرَّاحلةِ السَّيِّدةِ عطاف مارديني، فقدْ كانتْ جلساتٍ ثقافيَّةً يبحثُ أفرادُ الأسرةِ في قضايا التَّاريخِ والتَّرجمةِ واللُّغةِ والأدبِ، فكأنَّ هذهِ الأسرةَ المثقَّفةَ كانتْ عنوانًا لرُوح سوريا الخلَّاقةِ، المؤمنةِ بأهمِّيَّةِ العلمِ والمعرفةِ في صناعةِ المستوى الاجتماعيّ والوطنيّ للأفرادِ والمجتمعاتِ.
يتمُّ الأستاذُ عبدُ الإله الملَّاح هذا العامَ عامَهُ الخامسَ والثَّمانينَ، من عمرٍ حافلٍ بالعطاءِ والبحثِ والعملِ الرَّفيعِ المستوى في كلِّ المجالات الَّتي ساهمَ بها، وإذا كانَ الكثيرُ من جيلِ اليومِ العازفِ عن القراءةِ والعودةِ إلى منابعِ الثَّقافةِ والمعرفةِ الحقيقيَّةِ يجهلُ اسمَه، وما قدَّمه لسوريا وللثَّقافةِ العربيَّةِ، فإنَّنا في هذا الملفِّ نسعى لنُلقيَ ضوءًا مستحقًّا على رجلٍ يستحقُّ أن يبقى في ذاكرةِ السُّوريِّينَ… ويستحقُّ أن نقولَ له: شكرًا، وأن نفخرَ أننَّا عاصرَناه، وعاصرَنا عطاءاتِه الثَّرَّةَ الَّتي ستبقى في سجلِّه المُضيءِ دونَ شكٍّ.
