قراءة: عبد السّلام الحسين
فاجأ اتّحاد الكتّاب العرب جمهور مهرجان حماة الثّقافيّ الأوّل بإنتاج وثائقيّ، حظِي بالكثير من الحفاوة وحرارة الاستقبال… فقد شهدت مدينة مصياف في محافظة حماة، ضمن فعّاليّات مهرجان حماة الثّقافيّ لعام 2025م، عرضًا خاصًّا لفيلم وثائقيّ؛ يُخلّد سيرة الأديب والشّاعر والمسرحيّ السّوريّ الرّاحل ممدوح عدوان، أحد أبرز أعلام الأدب السّوريّ، جاء هذا التّكريم بتنظيم من اتّحاد الكتّاب العرب بالتّعاون مع مديريّة الثّقافة الّتي فتحت أبواب مركزها الثّقافيّ في مصياف لاحتضان هذه الفعّاليّة، في إطار احتفاليّة ثقافّية جمعت بين الشّعر والنّدوات والسّينما، واحتفت بذاكرة رجلٍ ترك بصمة لا تُمحى في الوجدان الثّقافيّ السّوري والعربيّ.
منذ العنوان: “المختلف بين الأشباه” بدا واضحًا أنّ الفيلم الّذي كتب له السّيناريو، وأخرجه الأستاذ محمّد منصور، كان مهتمًّا بإبراز تميّز ممدوح عدوان بين أقرانه من الأدباء، وهو الّذي دخل الحياة الثّقافيّة في ستينيّات القرن العشرين بعد انقلاب حزب البعث عام 1963م، فعاصر الحكم البعثيّ وصولًا إلى زمن حافظ الأسد فوريثه بشّار الأسد.
بمهارة لافتة استطاع مبدع هذا الفيلم أن ينتقي عبارات صادمة بجرأتها لممدوح عدوان، وخصوصًا أنّها قيلت في زمن الاستبداد… بدءًا من عبارته الشّهيرة: إنّ الإعلام السّوريّ يكذب حتّى في درجات الحرارة الّتي قال في اجتماع الجبهة الوطنيّة التّقدّمية عام 1979م، وذهبت مثلًا سائرًا في توصيف حال هذا الإعلام كمعبّر عن سلطة كاذبة أيضًا.. وليس انتهاء بحديثه عن الصّحافة والنّقد والانتماء للحياة كـ:”ابن شوارع” كما وصف نفسه بتواضع وصدق.
كان التّميّز في الجرأة، والتّميّز في الصّدق، والتّميّز في لمس المواجع بوصلة هذا الفيلم الّذي لم يتجاوز 16 دقيقة، لكنّه لامس عالم هذا الأديب المتنوّع في إبداعه ومجالات كتاباته، وقد أثرى الفيلم شهادات الضّيوف الّذين تحدّثوا عنه كالمخرج الكبير الأستاذ مأمون البنّي الّذي أخرج عددًا من المسلسلات النّاجحة لعدوان، والأديب إسلام أبو شكير، والكاتبة كوليت بهنا الّتي عبّرت عن روحه الشّابّة والمقاتلة بمفردات طريفة ومعبّرة.
ممدوح عدوان الّذي ولد في 23 نوفمبر 1941م في قرية قيرون قرب مصياف، وتوفي في 19 ديسمبر 2004م، تميّزت مسيرته بغزارة الإنتاج وتنوّعه، حيث أصدر أكثر من 22 مجموعة شعريّة، و26 مسرحيّة، وترجم نحو 30 كتابًا عن الإنكليزيّة، وكتب في الصّحافة والمقالة والنّقد والمذكّرات، كان صوته الأدبيّ حادًّا، ناقدًا، ومتمرّدًا، ممّا جعله أحد أبرز رموز الثّقافة السّوريّة في النّصف الثّاني من القرن العشرين.
وقد جاء عرض الفيلم الوثائقيّ عن ممدوح عدوان في اليوم الرّابع من المهرجان، على خشبة المركز الثّقافيّ في مصياف، ليسلط الضّوء على محطّات حياته ومفردات من حياة الرّجل ونمط تفكيره… ولهذا قوبل بتفاعل مميّز، وبتقدير لدور الاتّحاد الّذي أنتج الفيلم في الاهتمام بترجمة حياة الأدباء عبر أفلام وثائقيّة؛ لتكون سجلًّا بصريًّا لحضورهم وإبداعاتهم.
تضمّن الفيلم مقاطع أرشيفيّة نادرة، وصورًا فوتوغرافيّة، ومقاطع من مقابلاته وأشعاره، جاءت في سياق تعليق صوتي قرأه مهنّد منصور، ومونتاج متميّز في قدرته على صنع سياق حيويّ للفيلم عبر موسيقا منتقاة بعناية، ما أضفى على العرض طابعًا حميميًّا وإنسانيًّا ونجاحًا فنّيًّا واضحًا.
اختتم مهرجان حماة الثّقافيّ فعالياته بتكريم المشاركين، في رسالة وفاء لكلّ من أسهم في إثراء الثّقافة السّوريّة، كان عرض الفيلم عن ممدوح عدوان تتويجًا لهذه الرّسالة، وتأكيدًا أنّ الثّقافة الحقيقيّة لا تموت، بل تُخلّد في الذّاكرة الجمعيّة، وتُروى للأجيال القادمة.
بهذا العرض، أعاد مهرجان حماة الثّقافيّ في مصياف إحياء سيرة ممدوح عدوان، وذكّرنا بأنّ الكلمة الصّادقة تظلّ حيّة، وأنّ المبدعين الحقيقيّين لا يُنسون، بل يظلّون منارات تهدي دروبنا الثّقافيّة.
(المقال منشور في العدد 1922 من الأسبوع الأدبي)