عيسى الشّيخ حسن
تبدو مقولة: “لا كرامة لنبيّ في أرضه” صائبة من وجهة نظر المغتربين، وعلى الأقلّ فإنّها تناسب أهواءهم، ولكنّها صائبة في اجتراحها الأوّل؛ فكثير من الأنبياء لم تجد دعوته نجاحًا إلّا خارج بني قومه، وهذا شيء متفهّم على الأقلّ في ميدان علم النّفس، فمن الصّعوبة بمكان تقبّل الطّريف المبهر من المألوف جارًا أو قريبًا.
وليس هذا مقتصرًا علينا نحن السّوريّين، ولكنّه يبدو قانونًا طبيعيًّا تغنّت به أشعار الحكماء الّذين يقطعون الفيافي والقفار، وهمّتهم في سعود، وتكون الدّعوة إلى التّغرّب شيئًا معتادًا لصناعة الرّجال، أو كشف معادنهم: “تغرّب ففي الأسفار سبع فوائدٍ”، وينسبون إلى بعض القادة أنّ من شروط اكتمال المرء أن يتغرّب ثلاث سنوات على الأقلّ، ويقدّم الإمام الشّافعيّ التّغرّب في مقارنة لطيفة بفراق السّهم للقوس: “والسّهم لولا فراق القوس لم يصب”.
في سوريّة الّتي تناثر أبناؤها في المنافي منذ أكثر من قرن، شهد أبناؤها نجاحاتٍ مختلفةً ومتنوّعةً وكثيرةً، في العلوم والتّجارة والرّياضة والأدب، وفي المهجر كان السّوريّون يعيدون سيرة الشّعر العربيّ بنسغ ذي مذاق خاصّ، تجمّع فيه الحنين والغربة وقراءة الواقع الجديد.
وفي النّزوح الأخير شهدت دول اللّجوء تفوّق عدد غير قليل من السّوريّين، ولعلّ من تابع أمسيات: “فزعات الخير” في درعا، وحمص، ودير الزور، قرأ في المبادرات المختلفة أنّ السّوريّين لم يضيّعوا وقتهم في تكايا اللّجوء ومعاشاته، ورأى ما رأى من نجاحاتهم.
من هذه البلاد خرج الرّاحل عدنان فرزات، موهوب لم يقف عند شكل معيّن من أشكال الإبداع، فحقّق نجاحًا خارج المكان، كاتبًا وصحفيًّا، فشغل أكثر من مكان في دولة الكويت الشّقيقة، في مؤسّسة البابطين، وفي مجلّة البيان سكرتيرًا لتحريرها، وساهم مساهمة واضحة ومقَدّرة في الحراك الثّقافيّ في هذا البلد العربيّ العزيز، وفي البلاد العربيّة التي تسافر إليها مجلّة البيان، النّاطقة باسم رابطة الكتّاب الكويتيّين.
وقد شهدت ثمار هذا في تلهّف كتّاب الكويت الّذين دعوناهم إلى الكتابة عن عدنان، فسارعوا جميعًا إلى بثّ ما في أرواحهم من محبّة للرّاحل: شعراء ورواة ونقّاداً وكوادر تحرير، ما هذا إلّا دليل محبّة ذلك السّوريّ الّذي غرس في أرض الكويت حكاية سوريّة جميلة، رأيت أثرها بالأمس، والمبدعون الكويتيّون يتداعون إلى الملفّ الّذي سننجزه عن الرّاحل.
لم يعد من باب التندّر أو التّشاعر إن قلت للغيمة كما قال جدّك الرّشيد: “اذهبي يا غيمة حيث شئتِ”، وأكملت فإنّها ستهطل فوق سوريّين، وعدنان فرزات الّذي تنازعته دير الزّور، وحماة، وسوريا والكويت، السّحابة السّوريّة الّتي أمطرت في بلاد النّخيل، فكان خراج الإبداع مباركًا طيّبًا، في كثير من الرّوايات، والأعمال الإبداعيّة المختلفة.
يقول أهلنا: “عشب الحوش مرّ”، ولهذا يغيب الرّجال، ويتغرّبون، ويقولون: “من طوّل الغيبات جاء بالغنائم”، لقد طوّلت يا عدنان الغيبة، وجئتنا بكلّ هؤلاء المحبّين، فكلّ التّحيّة والمحبّة لهم، والرّحمة لك أيّها المبدع الطيّب.
(افتتاحية العدد 1922 من الأسبوع الأدبي)