في كل مراحل التغيير والتحولات الكبرى، تحتاج الشعوب إلى مراجعة الإرث الذي رافق حياتها، وطبع الكثير من توجهات مجتمعاتها وأفكار كتابها ومفكريها وأدبائها.
وعلى الأغلب ما تكون عملية المراجعة شاقة وعسيرة، وخصوصاً إذا كان الإرث الذي عايشته، فرض عليها بالقوة، وكان جزءاً من نسيج حكم شمولي، أراد أن يلون المجتمع والثقافة والحياة بلون واحد، وصبغة مسيطرة تلتهم هوامش التنوع، وتقيد نوازع الاختلاف الطبيعية في الرؤى والتوجهات والأفكار.
ولعل مشكلة إرث البعث، ثقافياً كان أو سياسياً، تنبع من هنا… فالحزب الذي حكم سوريا، أو حكمت سوريا باسمه طوال أكثر من ستة عقود، لم يصل إلى السلطة بالتوافق ولا بالانتخاب، بل بانقلاب عسكري مسلح قاده العسكر، وهو منذ بداية استيلائه على السلطة لم يقبل بأي تشاركية، حتى مع من شاركوه العملية الانقلابية من الناصريين فسرعان ما فتك بهم، ونصب لهم أعواد المشانق ولم يمض على وصوله إلى السلطة سوى أربعة أشهر، وحين تمكن من الحكم أكثر فأكثر، نصّب نفسه قائداً للدولة والمجتمع بموجب المادة الثامنة من دستور عام 1973م، بحيث صار السوريون رعايا عند حزب يفصل لهم ولأطفالهم حتى لون لباسهم المدرسي.
إذاً لم يكن إرث البعث الذي نسعى إلى مراجعته ثقافياً في هذا العدد الخاص من مجلة: (الموقف الأدبي) سوى وجه من وجوه نظام استبدادي شمولي، فرض على المجتمع السوري أن يردد شعاراته كل صباح، وأن يحفظ قصائد شعرائه، وأن يطالع صحفه ومجلاته، وأن يرسل أطفاله منذ نعومة أظفارهم – مجبراً لا مختاراً – إلى منظمة الطلائع التابعة له، ليتعلموا أصول التدجين والهتاف للحزب القائد والأب القائد.
كان إرثاً مفروضاً بالقوة، قوة الاستيلاء على الدولة، وقوة حكم الحزب الواحد، وقوة فرض الثقافة البعثية الواحدة، التي تحارب كل ثقافة تتعارض معها، ومع أهداف الحزب الذي قرر أن يقود الدولة والمجتمع طوال عقود، أفضت في النهاية إلى الانفجار والثورة، على كل ما كانت تمثله تلك الثقافة من قيم الخنوع، وإعلاء الولاء البعثي على كل قيم الكفاءة والمواطنة، وسيادة الاستزلام والنفاق، ناهيك عن التماهي في السلطة الأمنية وأجهزتها القمعية، حيث صار الانتساب للحزب وسيلة للارتقاء والصعود في السلم الوظيفي والسلطوي حتى في المجال الثقافي.
وخلال نصف القرن الأخير، امتزجت الثقافة البعثية بالثقافة الأسدية، فتجسد الوطن بكل مفاصله، والمصلحة العليا بكل ضروراتها بصورة الأب القائد، الأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي، والقائد العام للجيش والقوات المسلحة، وصانع السياسات والتحولات، ومبدع التنازلات والانهيارات، ومهندس الصفقات، وباني السجون والمعتقلات، ومشرّع أبواب المسالخ البشرية، فصارت ثقافة البعث – شاء البعثيون الشرفاء أم أبوا – جزءاً من هذا كله، وفي حالات كثيرة: في خدمة هذا كله.
من هنا يمكن أن نفهم لماذا هلل السوريون فرحاً، حين صدر في التاسع والعشرين من كانون الثاني/ يناير عام 2025م قرار حل حزب البعث العربي الاشتراكي في بلد المنشأ، ولماذا امتلأت صفحات السوريين على وسائل التواصل الاجتماعي بالكثير من القصص والحكايات التي تروي جانباً من تجربتهم المُرّة مع حكم هذا الحزب، وما تمخض عنه من نمط كئيب لحياة ملأى بالشعارات المتناقضة مع مسار الحزب نفسه في شتى مجالات الحياة، ومسارات الحكم والإدارة.
لقد شعر السوريون أنهم تخلصوا من ثقافة فرضت عليهم، وجعلتهم أسرى لكتاب وشعراء وقصاصين فرض أدبهم في مناهج الدراسة، وعلى صفحات الصحف والمجلات، في الوقت الذي حورب آخرون حلقوا خارج السرب البعثي، وكسروا أنماط التعبير الشعاراتي والتنظير الأيديولوجي، فكانوا عنواناً لثقافة ترفض الأطر والقيود، وتهرب إلى رحابة العقل النقدي الذي يبدع الأسئلة الجديدة المتمردة، التي بدت أشبه بالمحرمات في عرف البعث.
إننا ونحن نقدم هذا العدد الخاص بثقافة البعث، ندرك أنه من الصعوبة بمكان أن تجد اليوم من يدافع عن تلك الثقافة، ولو على سبيل تنوع الآراء، فقد كانت صورة ثقافة البعث في مجمل ما قدمه لنا الكتاب والباحثون والمبدعون، وهم بالمناسبة ينتمون إلى أكثر من جيل، صورة قاتمة، تتراوح بين الشعور بالمرارة والخذلان، وبين قسوة الهجاء… ولا عجب في ذلك، فقد كانت صورة البعث حتى في المكتبة العربية، التي توقفنا عند نماذج منها، شبيهة بهذا كله، ومن قبل آباء البعث المؤسسين، الذين ألفوا الكتب عن انحرافاته وسقوطه وفقدان قاعدته الجماهيرية الحقيقية منذ السنوات الأولى لوصوله إلى السلطة بانقلاب عسكري، لكنه حكم التاريخ، فالتاريخ الذي يفسح المجال للتجارب كي تنمو وتتبلور وتقدم ما لديها للناس، لا يرحم حين تبلغ هذه التجارب منتهاها، وهو هنا ينطق بألسنة الناس وأقلامهم… ألم يقولوا قديماً: ألسنة الخلق أقلام الحق.
