أ.د. عبد النبي اصطيف
جامعة دمشق
“إن الله لَيَزَع بالسلطان ما لا يَزَع بالقرآن”، قول مأثور عن الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفّان، رضي الله عنه، يؤكد دور السلطان، وما يملكه من سلطة، في تقويم سلوك الفرد والمجتمع ونشاطاتهما، ومختلف الفعاليات التي تنطوي عليها الحياة الإنسانية.
ومعنى هذا أن السلطة وممارستها من جانب السلطان ضرورية لأي مجتمع، وبخاصة عندما تكون هناك فئة أو شريحة من المجتمعات الإنسانية لا ترتدع بسلطان الدين، والأخلاق، والضمير، وذلك لضعف إيمانها، وتراخي تمسكها بالمبادئ والمعايير الأخلاقية، وصممها عن صوت ضميرها، إذ لا بدّ لها عندئذ من سلطة دنيوية تحدّ من تجاوزها لحدودها، وتحول بينها وبين إلحاق الأذى بغيرها من شرائح المجتمع بِمسوِّغ ممارستها لحرّيتها في القول والعمل.
ولكن هل يعني ذلك أن السلطة، التي يُتيحها السلطان، مطلقة، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولا يحكمها مبدأ أو معيار أو مصلحة عامّة، أو قيمة أخلاقية أو اجتماعية ما؟
الجواب هنا هو أن السلطة يجب أن تخضع، في تدبُّرها لأي نشاط أو فعالية أو سلوك تصدر عن المجتمع الإنساني وفي حكمها عليه، لمبادئ وقيم وفضائل سامية، أبرزها العدل والإنصاف والمساواة، أما عندما تكون مطلقة فإنها تتحوّل بالتدريج إلى سلطة غاشمة ظالمة، وعندما تُداخِل حياة الناس بوصفها كذلك فإنها تُفسد عليهم حياتهم بكل وجوهها، وهذا ما كان من حالها في سورية خلال العقود الستة الأخيرة عندما اخترقت هذه السلطة مختلف شؤون المجتمع السوري، بما في ذلك إنتاجه الثقافي، وغدت وبالاً عليه.
وقد مهدت السلطة في سورية لسلطتها المطلقة الغاشمة بإعلاء قيمة الولاء المطلق لها، بديلاً ملائماً من قيمتي الكفاءة والنزاهة الضرورتين في بناء المجتمع الحديث المتطور، وتأكيد هذا الولاء أحياناً كثيرة بصكوك موقّعة بالدم، وعمدت إلى نشر الاستخفاف بالرسالات السماوية والمبادئ الأخلاقية، والقيم الروحية السامية، والفضائل التي تحمي المجتمع السوري، الذي يغلب عليه التنوّع والتعددية، من التفكك، ومع أنه يُفترَض بالسلطان أن يهبّ لتعزيز ما يأمر به القرآن، بوصفه خليفة الله على الأرض، يعمرها بالخير، ويجعل من سلطانه معزِّزاً لحكم الله، فإنه غدا، منذ تسلّمه مقاليد الأمور في سورية، وحكمه للبلاد والعباد، قوة غاشمة ينفرد في ممارستها، حتى إنه يرى سلطانه نظيراً للسلطان الإلهي لا سبيل إلى مخالفته أو التمرّد عليه، أو حتى مساءلته، مما حوّل حكمه إلى حكم غاشم مطلق، وسعى بكل ما يملك من إمكانات، إلى أن ينسج، بمن والاه من رعيته من ذوي المصلحة الدنيوية الآنية، شبكة عنكبوتية تتخلّل مختلفَ مرافق المجتمع وتُيَسِّر من ثَمَّ تحكُّمه فيها، وهدفه من ذلك لم يكن الارتقاء بهذا المجتمع وتحقيق تطلعاته في الحياة، وإنما احتواؤه والسيطرة عليه والتحكّم بمختلف نشاطاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية، وبعبارة أخرى التحكم بما يفكر أفراده، وبما يعبّرون به، وبما ينشرونه، وهو ما شهده المجتمع السوري خلال العقود الستة الأخيرة.
ففضلاً على دور الرقابة، وشروط الموافقات الأمنية، والقيود المالية والاقتصادية التي وضعت على عملية الإنتاج الثقافي، والرقابة الذاتية التي باتت تُداخل شعور الكُتّاب ولا شعورهم، والناجمة عن تأثير مؤسسات النظام الحاكم المنوط بها الإشراف على هذا الإنتاج، فقد عمد هذا النظام إلى التحكّم المطلق بما تنتجه المؤسسات التي تشرف على الإنتاج الثقافي في المجتمع السوري بمختلف صوره، من خلال وضع عناصر موالية له ولاء مطلقاً في إداراته، وبمؤهلات متواضعة لا يهمّها سوى تنفيذ الأوامر والتوجيهات التي تمرِّرها له السلطات العليا في الدولة.
والناظر إلى هذه المؤسسات يمكنه أن يتبين بسهولة خطورة مواقعها في الشبكة العنكبوتية التي تحكم الإنتاج الثقافي في البلاد، وتحكم مدخلاته ومخرجاته، وإذا ما حاول تحديد هذه المؤسسات فإنه يمكن أن يذكر التالي:
● وزارة الثقافة بمديرياتها المختلفة (مديرية ثقافة الطفل، ومديرية تعليم الكبار، ومديرية المسارح والموسيقا، ومديرية المهرجانات، ومديرية المعاهد الموسيقية، ومديرية الفنون الجميلة، ومديرية الرقابة الفنية، ومديرية حقوق المؤلف، والمديرية العامة للآثار والمتاحف، ومديرية الثقافة الشعبية، ومديرية العلاقات الثقافية)، ومؤسساتها (المؤسسة العامّة للسينما)، وهيئاتها (الهيئة العامّة السورية للكتاب)، ومعاهدها (المعهد العالي للفنون المسرحية، والمعهد العالي للموسيقا)، ومعارضها (الخاصة بالكتب والفنّ التشكيلي) فضلاً عن إدارتها لدار الأوبرا، ولجوائز الدولة التقديرية والتشجيعية، والجوائز الخاصة بالأجناس الأدبية.
● اتحاد الكتّاب العرب بمؤتمراته، ومنشوراته الدورية، ونشاطاته المختلفة، وبما يصدره من كتب، وما يقيمه من علاقات ثقافية عربية ودولية.
● مجمع اللغة العربية بمجلّته، ومنشوراته المتصلة باللغة العربية والتراث العربي، ومؤتمراته، وندواته، ومحاضراته العامّة، وجوائزه، ونشاطاته الثقافية العامّة، وعلاقاته العربية والدولية.
● وزارة الإعلام وما تصدره من صحف ومجلات، وما تديره من إذاعات، وقنوات فضائية، ووكالة أنباء، وما تنتجه من أفلام ومسلسلات وبرامج ثقافية.
● وزارة التربية وما تنشره من كتب لمختلف مراحل التعليم الأساسي والثانوي.
● وزارة التعليم العالي بمنشوراتها ومؤتمراتها، وإشرافها على ما تصدره الجامعات الحكومية من كتب ومراجع جامعية، ودوريات محكمة متخصصة بمختلف العلوم والمعارف.
● المنظمات الشعبية:
1. منظمة طلائع البعث وما تنظّمه من مهرجانات، ومعسكرات، ودورات، وما تصدره من دوريات ونشرات.
2. منظمة اتحاد شبيبة الثورة وما تنظّمه من دورات ومعسكرات واحتفالات.
3. منظمة الاتحاد الوطني لطلبة سورية وما تنظّمه من دورات واحتفالات.
4. النقابات المهنية (نقابة الفنانين، الحرفيون، ونقابة الفنون التشكيلية، ونقابات الأطباء، والصيادلة، والمهندسين، والمهندسين الزراعيين وغيرها) وما تنظّمه من مؤتمرات ولقاءات، وما تنشره من كتب ومجلات.
الدولة، التي تسنّم فيها حزب البعث العربي الاشتراكي الحكم، والتي باتت تملك السلطة المطلقة الغاشمة، تعوّم من تشاء منهم، وتهمّش من تشاء، ومن يخرج عن سلطانها، الذي تكفله القبضة المحكمة للشبكة العنكبوتية المسلحة
ومعنى هذا أن الدولة، التي تسنّم فيها حزب البعث العربي الاشتراكي الحكم، والتي باتت تملك السلطة المطلقة الغاشمة، لم تكن تكتفي بتكوين الكُتّاب من الجانب الفكري والثقافي والسياسي منذ نعومة أظفارهم وخلال مراحل حياتهم اللاحقة (بإجبارهم على الانتساب إلى مختلف المنظمات الشعبية التي يديرها ويوجِّه جميع نشاطاتها الحزب القائد للدولة والمجتمع)، بل تتحكم بما ينتجونه من ثقافة، بتحكّمها بمدخلات نتاجهم، ومن ثَمَّ مخرجاتها، وبقنوات نشرها وبثّها وتوزيعها، وتسويقها داخل سورية وخارجها، وتعوّم من تشاء منهم، وتهمّش من تشاء، ومن يخرج عن سلطانها، الذي تكفله القبضة المحكمة للشبكة العنكبوتية المسلحة في سلطتها على رقاب منتجي الثقافة بأجهزة أمنية مسرفة في ازدرائها لقيم الحرّية والمواطنة، يُحارَب بشتى الوسائل، ويُشكَّك في ولائه للوطن والأمّة لمجرد أنه يغرّد خارج السرب، مما تمخض في نهاية المطاف عن ثقافة موحَّدَة ذات لون واحد، تُمجّد الوضع القائم، وتُسهم، من ثَمّ، في ترسيخه “نهجاً وطنياً مزيّفاً” ينكر التعدّدية والتنوّع، ويفضي في النهاية إلى موات تدريجي للثقافة الحقيقية، بل إلى “ثقافة تحتضِر” إذا ما استعرنا جزءاً من عنوان كتاب كريستوفر كوديل، المفكّر والناقد اليساري المعروف، “دراسات في ثقافة تحتضر”.
