ملحمةُ الطُّوفان… نهايةُ الـمُقاومة أم نهايةُ الـمُحتلّ؟ (نقلاً عن الثورة)

د. محمد الحوراني:
لم يعرفْ كيانُ الاحتلال الصهيونيّ كابوساً مثلَ كابوس السّابع من تشرين الأوّل ٢٠٢٣، ولم يشهد العالمُ إجراماً يُماثلُ إجرامَ المُحتلّ الصهيونيّ عَقِبَ مُحاولةِ رجالِ الـمُقاومة استعادةَ بعضِ حُقوقِهم الـمُغتصَبة منذُ أكثرَ من خمسٍ وسبعينَ سنةً، ذلكَ أنّ قُوى الشّرِّ في العالم تداعَتْ إلى القضاء على قُوى المقاومة التي أجهضَتْ مشاريعَهم الاستعماريّةَ في العقود الأخيرة، بل إنّ الولاياتِ الـمُتّحدةَ الأميركيّةَ قدّمتْ كُلَّ ما بوُسْعِها مِنْ مُساعداتٍ مادّيّة وعسكريّة إلى الكيان الصهيونيّ في مُحاولتِهِ المجنونةِ القضاءَ على قُوى المقاومة في فلسطين، كما أنَّ رئيسَها ووزيرَ خارجيّتِه وكبارَ قادَةِ الاستخبارات الأميركيّة قادُوا عمليّاتِ القتل والتدمير التي أقدمَتْ عليها قُوّاتُ الاحتلال الصهيونيّ، ودفعُوا بجنودهم ومُستشاريهم وحاملاتِ طائراتهم إلى المنطقة، في مُحاولةِ إعادةِ الاعتبارِ والتوازُن والهيبة إلى الكيان الذي ضُرِبَتْ عقيدتُهُ الأمنيّة والعسكريّة، وغدا مأزُوماً، على نحوٍ كبير، على الصعيدِ الداخليّ، بعدَ سلسلةٍ من الهزّاتِ والنكسات التي أُصِيبَ بها داخليّاً في المُدّة الأخيرة، وبعدَ جولاتٍ من الإخفاق الكبير في تحقيق مشروع “الشَّرق الأوسط الكبير” الذي أُطلقَ بالتنسيق والتآمُر بينَ الولايات الـمُتّحدة الأميركيّة والكيان الصهيونيّ وبعضِ الدُّوَل في المنطقة والعالم، ولعلَّ الإخفاقَ الأكبرَ الذي أصابَ الكيانَ الصهيونيَّ وداعمِيهِ تمثَّلَ في إجهاض الـمُؤامراتِ على بعض دُوَلِ المنطقة، ولاسيّما سورية، من خلال ما سُـمِّـيَ بـ: “الرّبيع العربيّ”.
ولـمّـا كانتْ قُوى المقاومة في فلسطين خاصّة، وفي المنطقة عامّة، قد آثرَتِ الانحيازَ إلى فلسطين، جاعلةً منها قضيّتَها المركزيّةَ والبوصلةَ التي تُوجِّهُ عملَها، فإنَّ الكيانَ الـمُحتلَّ وَجَدَ الفُرصةَ سانحةً أمامَهُ لتصفية قُوى المقاومة في فلسطين عامّة، وفي غزّةَ خاصّة، من خلال اتِّباعِهِ سياسةَ الأرضِ المحروقة، واستهدافِهِ المشافي والمساجدَ والكنائس، مُستخدِماً في سبيل ذلكَ كُلَّ أنواع الأسلحة، بما فيها تلك الـمُحرَّمة دوليّاً، ظنّاً منهُ أنَّ الإثخانَ في الأطفال والنساء والشيوخ يُفقِدُ المقاومةَ بيئتَها الحاضنة، ويجعلُها تنقلبُ عليها، بعدَ أنْ يكونَ قد دمّرَ المنازلَ والمشافي والمدارسَ والكنائس، وجعلَ البشرَ بلا مأوى.
والحقيقةُ أنَّ قُوّاتِ الاحتلال الصهيونيّ أرادَتْ من حربها المسعورة على الأبرياء في فلسطين المحتلّة التَّـخلُّصَ من غزّةَ التي شكّلتْ كابوساً مُزعِجاً للكيان، فأرادَ تدميرَها وإفناءَ أهلِها بعدَ أنْ خابَ ظنُّهُ في ابتلاع البحر لها ولمن فيها، وبعدَ أيام من الحرب المسعورة على الأبرياء في غزّة وإخفاقِهِ في إنهاءِ الحياة فيها، عادَ إلى طَرْحِ رغباتٍ قديمةٍ لديه تتمثّلُ في إجلاءِ الغزّاويّينَ عن أرضهم إلى سيناءَ وغيرها، لكنَّ الشعبَ الفلسطينيَّ أدركَ حقيقةَ الـمُؤامرة، فرفضَ مُغادرةَ أرضِ غزّة إلّا إلى غزّة، وآثرَ الشهادةَ على التهجير إلى أيِّ منطقةٍ أُخرى.
أمامَ هذا الثبات الفلسطينيّ على البقاء في الأرض والتجذُّرِ فيها، غدا كيانُ الاحتلال أكثرَ إجراماً في قَصْفِهِ المشافي والكنائسَ والمساجد، مُوقِعاً آلافَ الشُّهداء والـمُصابينَ في صفوف النساء والأطفال، ومُـحاولاً تضليلَ الرأي العامّ العالميّ والإعلام الغربيّ بتقديمه صُوَرَ الشُّهداءِ من الأطفال الفلسطينيين على أنّها للأطفال الصهاينة الذين استهدَفَتْهُم الـمُقاومةُ، وهو ما أدّى إلى تَبنِّي بعضِ وسائل الإعلام الغربيّة هذه الرؤيةَ، مثل (CNN) و(BBC) قبلَ أن تتراجعَ عنها بعدَ الحملةِ الكبيرة التي شُنّتْ عليها بسبب التضليل الإعلاميّ الذي مارسَتْهُ، وتبنّاهُ الرئيسُ الأميركيّ “بايدن” شخصيّاً، في مُـحاولةٍ منهُ شَيْطَنَةَ الـمُقاومةِ الفلسطينيّة تماماً كما هو حالُ الفرنسيّين والألمان والإنكليز الذين أرْهَبَتْهُم الكوفيّةُ والأعلامُ الفلسطينيّة، فعَمَدُوا إلى تجريم كُلِّ مَنْ يَحمِلُها، أو يتضامَنُ معَ الشعب الفلسطينيّ، بل إنّهُم عمدُوا إلى مُعاقبةِ كُلِّ من ينتقدُ الـمُمارساتِ الصهيونيّةَ كما هو الحالُ معَ رسّام الكاريكاتير في صحيفة “الغارديان” البريطانية “ستيف بيل” الذي أُقيلَ من عمله بعدَ أربعةِ عُقودٍ أمضاها في العمل، لا لشيء، إلّا لأنّهُ رسمَ رئيسَ وزراء الكيان الصهيونيّ، وهو يستعدُّ لإجراءِ عمليّةٍ جراحيّة، ويظهرُ في الخلفيّة قطاعُ غزّة معَ تعليقٍ يتضمّنُ نداءً إلى سُكّان غزّة بالخروج، وهذا ما عُـدَّ “مُعاداةً للساميّة” استحقَّ العقابَ عليه، في الوقت الذي لم يَجرُؤْ فيهِ أيٌّ من الـمُنظَّمات الدوليّة، التي تدّعِي حمايةَ حقوق الإنسان والدفاع عنها، على إدانةِ الإجرام الذي تُمارِسُهُ آلةُ البطش الصهيونية في حقِّ النساء والأطفال الفلسطينيين، أو إدانة دُعاةِ قتلِ أبناءِ الشعب الفلسطينيّ وتشويههم، كما هو حالُ الـمُجرمةِ “تسيبي نافون” مُستشارةِ زوجةِ رئيسِ الوزراء الصهيونيّ “نتنياهو”، التي طالبَتْ عَبْرَ صفحتها على (فيسبوك) بعدمِ قتلِ الـمُقاومينَ الفلسطينيّين، بل دَعَتْ إلى تعذيبهم قبلَ ذلك، مُـقترحةً أن تُسلَخَ جلودُهم، وتُـمْسَحَ أجسادُهم بزيت الخنازير، قبلَ قطعِ الأعضاء الحسّاسةِ من أجسادِهم، ثمّ رميهم بالرصاص.
نعم، هذا هو الكيانُ الـمُجرم، وهذه هي الـمُؤسَّساتُ التي تدَّعي حمايةَ حقوق الإنسان والدِّفاع عنها. إنّها مُؤسَّساتُ الانحياز إلى هذا الكيان الـمُجرِم الذي قتلَ الطُّفولةَ، وشوَّهَ براءَتَها، مِنْ خلالِ تدميره الـمنازلَ فوقَ رُؤوسِ ساكنيها، وتفنُّنِهِ في خَلْقِ جيلٍ من الصهاينة قائمٍ على العقيدة الداعشيّة التي خلقَتْها أجهزةُ الاستخبارات الأميركيّة والصهيونيّة في المنطقة، وليسَ أدلّ على ذلك من لعبة الأطفال التي ابتكرَها العقلُ الصهيونيّ الاستئصاليّ خلالَ الأيام الماضية، والـمُخصَّصة أساساً للأطفال الصهاينة، إذ يضغطُ الطفلُ الصهيونيُّ زرّاً يُؤدّي إلى قَذْفِ غزّة مِنْ خريطةِ فلسطين الـمُحتلّة.
هكذا هيَ الحربُ على أطفال فلسطين وعلى نسائها وشبابها اليوم. إنّها حربُ إبادةٍ واستئصال بكُلِّ ما تَحمِلُهُ الكلمةُ من حقدٍ وعُنفٍ ودعمٍ أميركيّ، وهو الدعمُ الذي وصلَ إلى حُدودِ قيادة الحرب بدلاً من “إسرائيل” حسبَ ما أكّدتْهُ صحيفةُ “يديعوت أحرنوت” الصهيونية.
وعلى الرغم من شراسةِ الحرب الصهيونيّة الأميركيّة وقذارتها على أهلنا في فلسطين الـمُحتلّة، لكنَّ حُلمَ الصهاينة بـمُغادرةِ الفلسطينيّين أرضَهُم باءَتْ بالإخفاق، تماماً كما أنَّ حُلمَهُم بتَخلِّي الشعب الفلسطينيّ عن الـمُقاومة قد تبخّرَ تماماً، فالشعبُ الفلسطينيُّ أصبحَ على يقينٍ مُطلَق بأنَّ مصيرَ الشعب وقُوى الـمُقاومة واحد، وأنَّ فلسطينَ لا يُـمكِنُ أن تتحرّرَ إلّا بالثبات والمقاومة، ولهذا فإنَّ الشعبَ الفلسطينيَّ لم تَعُدْ تُرْهِبُهُ آلةُ البطش والقتل الصهيونية، ولا التهديد باجتياح غزّة برّيّاً، لأنَّ أبناءَ غزّة ورجالَ الـمُقاومة فيها يَعْرِفُونَ تماماً كيفَ يُحِيلُونَ هذا التَّدخُّلَ، إنْ حدَثَ، إلى مأتم كبير من شأنِهِ أن يُسرِعَ في الإجهاز على الكيان الـمُحتلّ واستئصاله. ولهذا كان الدعم الغربي والأمريكي للكيان كبيرا في محاولة لإنقاذه من الانهيار المتسارع وخاصة بعد ملحمة الطوفان التي كشفت زيف قوته ووهن استخباراته.

قد يعجبك ايضا
جديد الكتب والإصدارات