الحداثة والمعاصرة (نقلاً عن السياسي)

د. عدنان عويّد

إن العلاقة ما بين مفهومي الحداثة والمعاصرة, علاقة ملتبسة برأيي في المبنى والمعنى, فإذا أخذنا المعاصرة في المعنى كما جاءت في معجم المعاني الجامع – معجم عربي عربي. نجد: مُعاصَرة: اسم, مصدرها: عاصرَ.
والمُعاصَرة: معايشة الحاضر بالوجدان والسُّلوك والإفادة من كلّ منجزاته العلميَّة والفكريَّة وتسخيرها لخدمة الإنسان ورقيّه.
وبناء على ذلك فهي في المبنى قريبة في دلالاتها من مفهوم الحداثة التي تعني: أسلوب حياة, يمارسه الفرد والمجتمع وفقاً لروح العصر الذي يتواجدون فيه, أو يعيشونه. هذا العصر الذي ينتج بالضرورة علاقاتهِ الاقتصاديّةَ والاجتماعيّةَ والسياسيّةَ والثقافيّةَ الجديدةَ التي تتناسب مع وجوده الاجتماعي بما يحمله هذا الوجود من قوى وعلاقات إنتاج وفكر.
فالمعاصرة والحداثة إذن: هما كل جديد في المجالين المادي والروحي اللذين تجليا في حياة مجتمع من المجتمعات, وراح الناس يتعاطون معه كأمر واقع, بغض النظر عن المواقف السلفيّة أو التقليديّة الرافضة له, على اعتباره بنظرهم بدعة أو مخالف للعادة والتقليد وقيم السلف. مع تأكيدنا أن قيم الحداثة والمعاصرة في دلالاتها الفلسفيّة والسياسيّة, غالباً ما تتجسد في الحريّة والعدالة والمساوة واحترام الرأي والرأي الاخر, والدفاع عن حريّة المرأة, والحفاظ على الحقوق الطبيعيّة للإنسان ومنها حق الحياة والحريّة والملكيّة والدفاع عن النفس.
بعيداً عن السياق التاريخيّ لظهور الحداثة وما بعدها, سأقوم هنا بتوصيفهما انطلاقاً من المنظور الفلسفي لكل منها, مع تأكيدنا بأن المواقف الفلسفيّة ليست مجردة, وإنما هي مواقف مشخصة ترتبط بالواقع, ولكن رؤيتنا إلى هذين المفهومين هنا, تظل أقرب إلى البعد الأبستمولوجي (المعرفي) منها إلى السياقات التاريخيّة لظهورها وتجلياتها.
الحداثة والمعاصرة في سياقهما العام, هما سلسة من الإصلاحات الثقافيّة في تجلياتها الواسعة, التي تشمل الفن والهندسة والموسيقى والآداب والفنون التطبيقيّة وغيرها. والتعريف في عموميته غطى العديد من الحركات أو الاتجاهات السياسيّة والثقافيّة والفنيّة, التي حققت جملة من التغيرات في المجتمع الغربيّ عند نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين .
وهما بتعبير آخر أيضا, ميل من التفكير الذي أكد على دور القوة والإرادة الإنسانيّة في تحسين, أو إعادة تشكيل المحيط الاجتماعيّ المعيوش عبر المعرفة والتكنولوجيا والتجربة الخاصة.
لقد استطاع كل من الحداثة والمعاصرة تشجيع إعادة امتحان كل الوجوه الحياتية بدءاً من التجارة وصولا إلى الفلسفة, بهدف القبض على مقومات الوجود الاجتماعي التي كانت تعرقل تقدم الإنسان, واستبدالها بمقومات جديدة قادرة على تحقيق الأهداف المنشودة في التقدم الإنسانيّ .
في جوهر المسألة, استطاعت الحركات الحداثيّة أو المعاصرة عبر كل المستويات أن تناقش الحقائق الجديدة لزمن الصناعة والتكنولوجيا, التي شملت إضافة إلى ما أشرنا إليه أعلاه, حداثة الفيزياء, والفلسفة والسياسة, والرياضيات …الخ التي راحت تكتمل, أو هي على وشك الاكتمال, والتي أصبح من المفروض على الناس تكييف صور عالمهم أو حياتهم بما يتناسب وقبول كل ما هو جميل وجيد وحقيقي من منجزات الزمن الجديد, زمن الثورة التكنولوجيّة.
وللتأكيد نستطيع القول هنا : إن مسألة العصرنة والحداثة شملت أيضا الكثير من أعمال المفكرين الذين ثاروا ضد أكاديميي ومؤرخي التقليد في القرن التاسع عشر, معتقدين أن صيغ الفن التقليدي في الهندسة والأدب والتنظيم الاجتماعيّ ومعظم معطيات الحياة اليوميّة المباشرة, أصبحت من العهد القديم. وعليهم مواجهة المعطيات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة التي أفرزها العالم التكنولوجيّ, والتعايش معها.
الحداثة وما بعد الحداثة:
لقد قام بعض المفكرين في القرن العشرين بتقسيم الحداثة إلى قسميين هما : الحداثة, وما بعد الحداثة, في حين لمس بعضهم أن الحداثة وما بعد الحداثة وجهان لعملة واحدة أيضاً. لذلك دعونا أن نتعرف هنا على الحداثة كما ظهرت في الغرب, أو كما فهمها الغرب, وبالتالي أين نحن اليوم منها موقعا وتفاعلاً في الساحة العربيّة.
نقول : إذا كانت الحداثة ( في صيغها الاجتماعيّة والفكريّة والسياسيّة) قد فجرتها تلك القوى الاجتماعيّة والفكريّة المعبرة عن التحولات الرأسماليّة الوليدة والتقدميّة آنذاك, والتي كانت وراء إسقاط السلطة الاستبداديّة للملك والكنيسة والنبلاء في صيغها القروسطيّة الأوربيّة .. هذه الحداثة التي قامت كما أشرنا قبل قليل على المطالبة بتسييد العقل والمنطق والنزعة الإنسانيّة والدعوة إلى الانفتاح والتواصل مع كل ما يخدم الإنسان وتقدمه وعدالته وحريته والسمو به, فإن ما بعد الحداثة في صيغها الاجتماعيّة والفكريّة والسياسيّة أيضا, قد فجرتها في الحقيقة الأجيال اللاحقة للقوى البرجوازيّة ذاتها التي تحولت إلى طبقة رأسماليّة احتكاريّة راحت تفرض هيمنتها الاقتصاديّة ليس على أوربا فحسب, وإنما على الاقتصاد والسياسيّة والثقافة في العالم, حيث دفعتها شهوة الثروة والسلطة إلى التحكم في رقاب الناس, وبالتالي السعي إلى إفراغ معظم الشعارات النبيلة التي مثلها تيار الحداثة المرتبط بالبرجوازيّة التقدميّة آنذاك, والعمل تحت ذريعة شعارات الحريّة والديمقراطيّة والفرديّة وغيرها من الشعارات الشكلانيّة التي بدأ يسوِّق لها في مضمار عالمها الليبرالي الجديد, على نفي وتدمير وتجاوز كل ما هو إنساني, أو يدعوا إلى الرقي بالإنسان, والتمسك بما يساعد على تجسيد وتعميم ثقافة وأخلاقيات كل ما يعمل على تكريس مفاهيم الموت والدمار وعدم التواصل والتفكيك والتذرير, وغير ذلك من المفاهيم المنتمية إلى العبث و اللامعقول.
لاشك أن الإرهاصات الأوليّة لأفكار ما بعد الحداثة, أخذت تظهر على الساحة الفكريّة والسياسيّة والثقافيّة مع انتهاء الحرب الكونيّة الأولى, وما خلفته هذه الحرب – إضافة إلى نتائج الحرب الكونية الثانية – من دمار على المستويات كافة, الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة, وبخاصة في المجتمعات الأوربيّة كما أشرنا في موقع سابق, هذه الأفكار التي أخذت تشير إلى حالات الضياع التي وضع فيها الإنسان الأوربي ذاته من قبل القوى المستفيدة من قيام تلك الحروب, وهي القوى الطبقيّة الرأسماليّة الاحتكاريّة الأوربيّة بشكل عام, التي تعارضت مصالحها الاقتصاديّة على غنائم العالم الثالث, وهو العالم ذاته الذي حولت هذه القوى ثرواته وأبناءه إلى وقود تؤجج فيه نار هذه الحروب ضد بعضها بعضاً كما هو معروف تاريخيّا في الحربين العالميتين.
أما أبرز مَن راح يدعو, أو ينظر إلى تلك الأفكار الـ ” ما بعد حداثوية ” لليبراليّة الجديدة, ويعمل على إعادة هيكلة الفلسفة المثاليّة الميتافيزيقيّة في صيغها المعاصرة, فهم على سبيل المثال لا الحصر, سارتر, في الوجوديّة, والبيركامو, في العبثية واللامعقول, وجاك ديدرا في التفكيكية وسلفادور دالي, ( الداديّة) ممثلة بالمدرسة السرياليّة في الفن والأدب, هذا ونجد تجليات ما بعد الحداثة في الفلسفة وعلم الاجتماع ممثلة في مدارس كثيرة منها, البنيويّة, والوضعيّة الحديثة, والدارونيّة الاجتماعيّة, والفرويديّة, والنيوفرويديّة, والسيكولوجيّة, والدارونية الاجتماعيّة, وغيرها الكثير من النظريات التي لم يعد حتى بمقدور المتابع للحركة الثقافيّة والفكريّة الركض وراءها والوقوف عند دلالاتها .
إن كل هذه الأفكار والنظريات التي جئنا عليها أعلاه, وغيرها الكثير, تشير في واقع أمرها إلى حالات الضياع الحقيقي التي وصل إليها الإنسان الأوربي, وكيف راح هذا الإنسان عبر مفكريه وفنانيه يعبر عن هذا الضياع ويرسم حلول خلاصه في رؤى وأفكار لا تنتمي إلى مشاكله ومعاناته وظروف واقعه الموضوعيّ والذاتيّ بصلة, بقدر ماهي حلول تقوم على تهويمات تنتمي إلى اللاشعور والتخيل, أو الغريزة أو إلى البعد النفسي, أو في المحصلة إلى كل ما هو مقتلَع من قاعه الاجتماعي والتاريخي والعقلاني. أي دفع الفرد للتفكير من داخله وليس من خلال الوجود الاجتماعي الذي يحيط به.
بيد أن هذا الكشف أو التوضيح من قبلنا لتعبيرات ما بعد الحداثة المنتمية واقعيّا وأيديولوجيّا إلى مرحلة الليبراليّة الجديدة, يدعونا إلى موقف الحياد تجاه هذه ( التعبيرات ) أو الرؤى والمواقف الفكريّة الفلسفيّة والفنيّة الما بعد حداثويّة على اعتبار أن قسما من هذه الرؤى والأفكار عندما طرحت لم يكن الهدف من طرحها زيادة ضياع الإنسان وتذريره وبالتالي تغريبه واستلابه بشكل مقصود أو مخطط له بشكل مسبق, بقدر ما كانت مواقف ترمي إلى تصوير واقع الإنسان في حالاته ضياعه تلك دون التركيز على البحث في أسباب ظهور هذه الحالات اللاعقلانيّة ودوافعها, في الوقت الذي نجد فيه أيضاً من سخرته تماماً القوى الرأسماليّة الاحتكاريّة للتنظير في هذا الاتجاه اللاعقلانيّ, وبكل مستوياته السياسيّة والفكريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة, والتسويق له, وخاصة على المستوى الإعلاميّ, بغية إبعاد الجمهور أو المواطنين عن معرفة الأسباب الحقيقية لضياعاتهم, لأن ما نشاهده يوميّاً على الساحة الإعلاميّة يؤكد لكل ذي بصيرة ما أشرنا إليه .

قد يعجبك ايضا
جديد الكتب والإصدارات