موريتانيا.. عشق فلسطين وأصالة الانتماء (نقلاً عن الثورة)
د. محمد الحوراني
أن تذهب إلى شنقيط يعني أن تعانق الأصالة والعروبة الحقيقيتين القائمتين على تجذر ثقافة الانتماء، والانحياز إلى الحق وأهله، كيف لا وأهل هذا البلد العريق، أطفالاً ونساءً، شيوخاً وشباباً، يعشقون فلسطين وسورية والعراق ولبنان وكل الأمصار العربية والإفريقية والعالمية المدافعة عن عدالة قضايانا ولاسيّما قضية فلسطين، في رحلتك إلى بلد المليون شاعر، كما أطلق عليها في يوم من الأيام أحد الصحفيين اللبنانيين، تجد الانحياز المطلق والحضور البهي، والدعم الكبير والتضامن الرفيع، مع أهلنا في غزة خصوصاً وفلسطين عموماً، وهذا ليس غريباً على شعب قوَّض أركان السفارة الصهيونية في بلاده، بعد محاولة بائسة من قبل البعض لإقامة علاقات مع الكيان المجرم، لا بل إن أبناء هذا الشعب العظيم المقاوم أطلقوا اسم ساحة القدس على الساحة المقابلة للسفارة الأمريكية في بلادهم في تحدٍّ واضح للولايات المتحدة الأمريكية؛ التي تقدم الدعم المطلق للكيان الصهيونيّ في حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني، كما أقاموا مجسَّماً للمسجد الأقصى وأطلقوا اسم شارع القدس على المكان الذي تقع فيه السفارة الأمريكية، وهو فعل له الكثير من المعاني والدلالات، لاسيما لجهة تعزيز حضور القدس في الوجدان وفي الضمير العالمي، وفيه إجبار للأمريكي على تثبيت اسم القدس في مراسلات سفارته في نواكشوط مع العالم كلِّه.
إنها أصالة شعب عاشق لأهله، مدافع صلب عن قضاياهم، حتى وإن نسيه البعض منهم أو تناسوه، وهو الحاضر ببهاء في قلوب الموريتانيين وعقولهم جميعاً، وهو ما يظهر بوضوح عند لقائك بأي موريتاني، بل إن حرص الأهل في موريتانيا على وحدة الصّف، ورأب الصَّدع بين الأشقاء، والتأكيد على التماهي مع الأهل في فلسطين والدفاع عن قضيتهم، هو أكثر ما يشغل بال الشعب والمثقفين والكتاب في موريتانيا، وعلى رأسهم الشيخ الجليل والأديب الأريب العالم المفضال الدكتور خليل النحوي، رئيس اتحاد الكتاب الموريتانيين، وكذلك المنسق العام للقمة الأدبية العربية الأفريقية، سعادة السفير محمد الصوفي، كما أن الاهتمام والعناية بأهلنا العرب في الدول الإفريقية كان الشغل الشاغل لهما، وخاصة في ظل ما تتعرض له العربية وأهلها في أفريقيا من حرب فرنكفونية؛ تستهدف القضاء عليها وتحويل ولاء أهلها سواء من خلال الترغيب أو الترهيب.
بعد رحلة دامت أكثر من أربع وعشرين ساعة، من دمشق إلى بيروت، ومنها إلى اسطنبول فنواكشوط، فتحت العاصمة الموريتانية أحضانها لاستقبال أشقائها العرب والأفارقة، لمشاركتها الفرحة في اختيارها عاصمة للثقافة الإسلامية لعام ٢٠٢٣.
لم يكن الحضن الموريتاني بارداً، كما هو الحال في بعض الدول، بل كان دافئاً دفء مناخها، رحبا رحابة عقول رجالها، حنوناً حنان ثقافتها، مخلصاً إخلاص أهلها لبلدهم. كانت البسمة تعلو وجه “نواكشوط” بكل بساطتها وطيبة أهلها، ورقة أنوثتها المختبئة خلف “ملاحف” العفة الشنقيطية، و”دراريع” الرجولة والشهامة الموريتانية الأصيلة، لا شيء يخيفك في هذا البلد إلا صخب الأطلسي وضجيج مياهه، التي حملت في يوم من الأيام المحتل والمستعمر والطامع بنهب الثروات الموريتانية ، كيف لا وهو المكتنز بالثروات البحرية، من لؤلؤ ومرجان وأسماك نادرة، عجز بطنه عن استيعابها في أحيان كثيرة، فراح يقذفها إلى الشاطئ، لعلها تقع في يد جائع أو محتاج من الأفارقة وغيرهم؛ الذين زيَّنوا رمال البحر وشواطئه بسمرة وجوهِهم وصلابة زنودهم، وقوة مراكبهم البدائية، التي تمخر ظلمات هذا المحيط بحثا عن الرزق الحلال والعيش الكريم.
في موريتانيا يوقن المرء أن أهلاً ومناضلين حقيقيين، ورجالا أشداء، تجاهلهم أو تناساهم لزمن طويل، على الرغم من صدق مشاعرهم ونبلها وأصالة موقفهم، وفي موريتانيا يوقن المرء أكثر فأكثر حجم القوة والدعم الكبيرين لقضايانا العادلة، والذي لم نحسن استثماره واحتضانه في وقت وجيز من الزمن.