قحطان بيرقدار.. بردى يُلقِّح لغته وقاسيون دروبه تنحدر بأسرارها (نقلاً عن الثورة)
الثورة _ رفاه الدروبي:
يحلم الشاعر قحطان بيرقدار، ويطيع آية الشعر، يدخل في طقوس التخيُّل، ُيؤاخي الدهر، آتياً في سديم الإشارات، يتَّكئ على أنفاس الوقت، ويترك للظاهر أن يحمل القمرعلى كتفيه، بردى يُلقِّح لغته، وتنحدر دروب قاسيون بأسرارها من أعالي التاريخ، تربط مكة بدمشق، وحسان بن ثابت بنزار قباني، تُسيِّجها ذاكرة الشمس، تترجم تنهُّداتها غوطة لاتزال تتأصَّل وتنمو، تتربَّع على جذر الأسرار، تراه واقفاً بباب شرقي، حاملاً باقة ياسمين، يأخذه التخيُّل، كي تمضي تحت قبة المعنى، ويتوالد فيه المجاز.
مقدمة افتتحت بها الأديبة رجاء كامل شاهين ندوة دعت لها جمعيتا الشعر والنقد الأدبي في اتحاد الكتَّاب العرب شاركها فيها الدكتور غسان غنيم، تناولت تجربة الشاعرين قحطان بيرقدار، وفرحان الخطيب.
يبتسم لخفايا النص
وتناول مضمون الدراسة النقدية للأديبة شاهين أنَّ النصوص الشعرية لقحطان، مختارة عن تجربة تمثل توجهاً خاصاً في بناء القصيدة الحديثة، وتحيلها إلى ذاتها العميق في قوة العبارة الإيحائية وكثافتها، فأثبت بأنَّه فنان يتقن صياغة اللغة في المجزوء من القصيدة، ويعطي للشعر مفهوماً مغايراً ضمن العلاقات المقامة من حيث التراكيب، الصور، الرموز، مبيِّنةً أنَّ اللغة المقصودة هنا ليست مجرد مفردات صوتية قائمة بذاتها، وإنَّما تشمل الكلمات، فتراه يبتسم لخفايا النص في بنيانه حين يشير إلى المضمون، وعلاقته بالتراث المعرفي العربي، إذ تنبثق الحداثة العربية، وتتكثّف الإشارة، وتتولد الدهشة، بكتابة لا تتخلى عن التواصل مع الشعرية العربية، على الأقل في أجزاء خاصة لكنَّها تنفصل عن تاريخه الموروث الشعري لتحيله إلى حاضر، أو محتمل في الممارسة الكتابية الحديثة ممارسة استباقية، تندفع في معانقة الرؤى، وطريقة التعبير، ويصبح الارتباط بما يمثِّل الحركة في اتجاه المستقبل أي تؤسِّس تاريخها على الرغبة، والانخفاض والانخطاف، والرؤية والكشف أي على ما يخترق العادة.
ولفتت إلى أنَّ الشاعر قحطان يدرك ما أخطأته حركة الشعر العربية، عندما تعلقت في التجديد بظواهر الإيقاع والإيقاع الخارجي، وأدرك السر برؤى عميقة تملأ أرجاءه وبالعلاقات الجديدة المستحدثة، وبعوامل تدفع النص إليها فكتب شعراً يستمد قوته وسلطته وشعريته من القدرة على إعادة صياغة الأشياء، وارتداء علاقات جديدة بينها، منوِّهةً إلى أنَّه عاد إلى ما وراء الواقع والأشياء البسيطة والتراث لأساطير المنطقة بل كان ثورة شعرية سعت لتكون بياناً شاملاً، طارحةً لفنها كرديف حقيقي مع الثقافة، ثورة في اللغة، وبالأشكال الغنائية الجديدة بنظر واضح في مسألتي الشكل والإيقاع واتجاهه لصنع حركة مرئية محسوسة بين شكلانية تعميق الشعر، بالقصد والمحتوى، وتفعيلة تصنع الشعر مواكباً للفلسفة والتاريخ، تدعو للتحديث والتغيير بأفكار تفصيلية، ومسايرة للماضي، بما يرى أيّ مقومات جديدة فلم يحصر الشعر في دفق اللاوعي، ولم يستبعد الواقع والخارج بل أطلقه بمفهومه الواسع.
الخطيب و «أميمة»
بدوره أستاذ الأدب الحديث والمقارن في جامعة دمشق الدكتور غسان غنيم انتقى قصيدة طويلة عنوانها:»أميمة» للشاعر فرحان الخطيب، أجرى عليها دراسته الأدبية، مبرِّراً اختياره لقصيدة واحدة بأنَّ أصول الدراسات المنهجية تجري بشكل انتقائي، ولاتشمل كلَّ القصائد، ورأى بأنَّ هناك تضارباً بين آراء النقاد في قضية طول القصيدة وقصرها في الشعر، ويجمع أغلبهم أنَّ طبيعتها الغنائية تميل إلى القصر، حيث يحاول الشاعر فيها أن يُعبِّر عبر مجاز محدود عن إحساس عرض، فأحبَّ أن يُجسِّده فصار قصيدة قصيرة.
كما أكَّد الدكتور غنيم أنَّ التعبير عن تلك التصورات الملحمية الكبرى، لا يتأتَّى إلا عبر الطويلة منها، بل قاس بعد نقَّاد الشعر عظمته بنظمه قصائد عصماء متلاحمة، وتبدأ القصيدة بغزل «أميمة» فيتبادر للمُتسرِّع في تلقِّيها بأنَّها غزلٌ «عمريٌّ»؛ لكنَّها دعوة لافتراع أنوثة نقيَّة، صافية، ويدعوها الشاعر للحبِّ لعلَّها تستطيع أن تريح أبناءها المتعبين مَنْ نسوا كلَّ معنى للاستيقاظ والقيام، وباتوا كما المومياء لا تحييهم رعشة حبٍّ، أو حياة من أي صوب أتت، مازالوا يزحفون خلف القوافل الراحلة يحدوهم الحُداء، وتقودهم تهويمات الخرافة والتطيُّر، لكنَّ الأجواء الفجائية لاتسلِّم الشاعر إلى يأس مرير؛ بل يناشد الأم الأرض «أميمة»، فتشظَّت ذات الإنسان فيها، وفقدت أي رغبة في الفعل القادر على التغيير لإعادة الرونق، والدماء إلى عروق جفَّت ويبست فأنشد:
هاتي لرعشتنا أنوثتك النقية للبقاء
هاتي حياة
قد كرهت تبعثري
تُرباً.. حصاة.. قشة
أو حُقَّ ماء..
جسدي تشظَّى
فابعثي خصب الحياة لهمَّتي
ولرونقي بعض الدماء
وأوضح أنَّ الشاعر اعتمد في لغة القصيدة على خلق معادل موضوعي لما يريد الوصول إليه المتلقي خشية الاستغراق في الرمز، فتصير الحالة معادلة لعاشق للأرض وللأمة، ولتاريخ شعب، وتنساق لغة الشعر مع الحال فتلبِّي متطلبات صور العشق والرمز معاً، كي يصير الرمز أقدر على البثِّ والإيحاء وإطلاق الخيال، ولا تستغرق لغة القصيدة في الانزياحات البعيدة إلا بما يخدم سيرورة الرمز، معللاً بأنَّ القصد من ذلك إطلاق دلالات تخدم رؤيا شاعر ولا يعني انعدام الانزياحات أو ندرتها في لغة القصيدة، إضافة إلى انتشار صور خدمت تنامي القصيدة للوصول إلى ذروتها، وكانت الصور، والانزياحات لم يقصدها الشاعر لذاتها أو ليقول بأنَّه قادر على اجتراحها لسهولتها بالنسبة له إلا أنَّ طبيعه اللغة الملحمية الساردة تتتابع فيها المشاهد لتروي حكاية أمة، كانت هاجسه ومبتغاه، فتنازل قليلاً عن شاعرية اللغة لصالح الرمز الشامل للقصيدة، ما أعطاها تماسكاً، ووحَّدتها العضوية بكلِّ ما يعنيه المصطلح.
تقصير النقاد!
بينما ذكر الشاعر بيرقدار في نهاية الندوة بأنَّه يقرض الشعر منذ عشرين عاماً، ولم يتناوله مبضع النقد إلا ثلاث أو أربع مرات خلال الفترة ذاتها، ويرى بأنَّه تقصير من النقاد في مواكبة شعراء جيله والأجيال اللاحقة.