غزّة… الإعلامُ المُقاومُ وتعميقُ الوعي (نقلاً عن الثورة)
الملحق الثقافي- د. محمد الحوراني – رئيس اتحاد الكتاب العرب – سورية:
بعدَ أكثرَ من خمسة وأربعين يوماً على حرب الإبادة الصهيونية بحق أهلنا في فلسطين، أخفقَ الكيانُ في تحقيق أيِّ إنجاز عسكري بالمعنى الدقيق للكلمة، ولهذا فإن آلةَ البطش الصهيونية أرادت تدميرَ مُقوّمات الحياة كلّها لعلّها تنجحُ في القضاء على المقاومين والتخفيف من قدرتهم على توجيه ضرباتٍ موجعة إلى الكيان الصهيوني.
ولمّا كان بعضُ الإعلاميين قد آثَرُوا الانحيازَ إلى الحق وأهله، وجازفوا بحياتهم لنقل حقيقةِ ما يقترفُهُ الصهاينةُ بحق أهلنا في غزة والضفة والقدس وغيرها، عمدَ الكيانُ الصهيوني إلى استهداف الصحفيين والكُتّاب والإعلاميين، رغبةً منه في قتلِ كلِّ حريصٍ على نقلِ الصورة الحقيقية لما يجري في فلسطين ولبنان وغيرهما، وهو ما أدّى إلى استشهادِ ثُلّةٍ من الإعلاميين الشُّرفاء في أكثر من محطّة ووكالة أخبار.
ولمّا كانت الروايةُ الصهيونية للحدث في غزة زائفةً، وتعتمدُ أساساً على التضليل والفبركات الإعلامية بوساطةِ بعضِ الوكالات والمحطات الإعلامية المرافقة لجنود الاحتلال في حربهم الإرهابية على غزة، وكان في مقدمة هذه القنوات والوكالات «هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي»، وشبكة «سي إن إن» الأميركية، اللتان أراد مراسلوهما تبرير الجرائم بحق الأطفال والنساء في غزة، وكذلك استهداف المشافي والمدارس بأنه كان يهدفُ إلى القضاء على المقاومين المُتحصّنين فيها، واقتحام الأنفاق داخل المراكز الطبية، وهي أنفاقٌ ليست موجودةً إلّا في السردية الصهيونية القائمة على الزيف والإخفاق والتخبُّط، كما هي موجودة في الإعلام غيرِ الأخلاقيّ الذي آثرَ الانحيازَ إلى المجرم ودعمه في مجازر بحق النساء والأطفال، في محاولة مُخفِقةٍ لتحقيق إنجاز أو نصر مُزيّف على الرُّضّع والخُدج والنساء، وبعد أن دمرت آلافُ الأطنان من القنابل والصواريخ الذكيّة نحو 50% من قطاع غزة، أخفقَ العدوُّ الصهيوني في النيل من المقاومة، كما عجزَ عن كسر إرادة المقاومين الذين أثبتتْ وقائعُ المعركة أنهم الأكثرُ صبراً ووعياً وحنكةً وخبرةً في التعامل مع العدوّ والتصدّي له وإيقاع الخسائر المؤلمة به حين يكونُ الالتحامُ في المعركة وجهاً لوجه.
ولمّا كان الكيانُ الصهيوني يدركُ خطورةَ نقل الصورة الحقيقية لما يجري على الأرض في غزة وغيرها، كان لزاماً عليه أن يسعى إلى كَمِّ الأفواه وإسكات كلِّ صوت أو رأي قادرٍ على نقل السردية الفلسطينية الصادقة في خضمِّ هذه الحرب الهمجية المُدمِّرة، بل إنّ الكيانَ الصهيونيّ، بقادته العسكريين والأمنيين ومراكز دراساته وأبحاثه، أدركَ، بما لا يدعُ مجالاً إلّا لليقين، حجمَ الأثر الإيجابيّ الذي يتركه الإعلامُ المهنيُّ والأخلاقيّ المنحاز إلى عدالة القضية الفلسطينية، بل إنّ الصهاينةَ غَدَوا على قناعة تامّة بالدور المهم والفاعل الذي يقومُ به الكاتب والإعلاميّ بنقل الحقيقة، والعمل على تكريس السردية الحقيقية لما أصابَ أهلَ فلسطين، ويُصيبُهم، وهي سرديةٌ تقومُ أساساً على الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني باستعادة أرضه وتقرير مصيره من خلال المقاومة والوسائل الممكنة جميعاً، وبخلق وعي ثقافي ومعرفي قادرٍ على التصدي لمحاولات تزييف الوعي ونشر ثقافة التحلُّل من المبادئ والقيم والأخلاق، تمهيداً لإسقاط الشباب في مستنقع التطبيع والقبول بالمحتل، الذي قُدِّمَ في السنوات الأخيرة بوصفه شريكاً في الإنسانية، وقادراً على الإسهام في الارتقاء بالواقع العربي والإسلامي ومساعدة الدول المحتاجة.
وقد جُوبِهَ هذا الزيفُ الفكريُّ والتضليل الإعلامي بخطواتٍ عالية المستوى من كُتّابٍ وإعلاميين وباحثين على الصعد كافّة، وهذا ما جعلَ حضورَ السردية والمظلومية الفلسطينية قوياً لدى الأطفال والشباب ممّن اعتقدَ المحتلُّ بأنهم سيَنْسَونَ قضيتَهم بعد موت آبائهم، لكنّ الحجرَ والمقلاع الذي قاوم به الآباءُ غدا صاروخاً وقذيفةً ومُسيّراتٍ تُزلزلُ كيانَ العدوّ، وعقيدةً راسخةً وإيماناً ثابتاً بحتمية الانتصار على المحتل واستعادة ما اغتصب من حقوق، وما كان هذا ليتحقّقَ لولا الجهودُ الكبيرة التي بذلها قادةٌ عسكريون وسياسيّون وكُتّابٌ وإعلاميّون مُقاومون استطاعوا بناءَ فعلٍ ثقافي مقاوم ومراكمته، كما استطاعوا إسقاطَ سرديات الزيف الصهيونية الهادفة إلى شرعنة الاحتلال والدعوة إلى السلام والتعايش معه.