على مقاس الحرب.. وجدان أبو محمود في توليفة قصص تراجيدية (نقلاً عن تشرين)

(الحالم الأخير )… مجموعة قصصية باثنتي عشرة قصة للكاتبة والروائية السورية وجدان يوسف أبو محمود، والصادرة عن وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب.. (الحالم الأخير)؛ هو عنوان المنتج الأدبي الذي ينتمي لفن القصة القصيرة… والحالم الأخير هو عنوانٌ مأخوذ من عناوين أحد النصوص، وقد بوّبت الكاتبة به الكتاب، وعلى الغلاف حين اصطادت إحدى مشاهد القصة لتثير حفيظة القارئ للدخول في عوالم ذلك الحالم الواهم الغامض الهارب من جنونه والذي تتكسر أوهامه ويتفحم الفرح الساكن قلبه أمام وهمٍ سرمدي خارج عن المألوف، فيخبط الطاولة برأسه ويبكي…

الكاتبة الساردة
الكتاب قصص قصيرة محكيّة على لسان الكاتبة، من النوع البسيط البعيد عن التعقيد، فجلّ القصص الاثنتي عشرة تقوم على شخصية رئيسة واحدة وأخرى متممة، بعيدة عن الأحداث المتشابكة.. وفيما يخصّ زمان ومكان كتابة القصة؛ فقد تناولت الكاتبة استراتجيتها الزمنية القائمة على خلفية الحرب، ورصدت بعين المعايش حكاياها وتلويحات الوداع.

تلكم القصص التي تناثرت أوجاعها على الشرفات وردهات المقاهي وأرصفة المدن التائهة والنائمة الحالمة بالخلاص والحبّ والأمان.

وبنبرةٍ أدبية متعبة وحزينة تارةً، ويائسة ويلفها الغموض تارة أخرى؛ تناهت إلى أسماعنا تلك الحكايا بردائها المجازي الساحر، وحبكتها التي تضعك وجهاً لوجه أمام دهشة النهايات.. فكان على وقع المجاز تلك التوليفة المميزة لقصص الزمن الصعب الغامض في متاهة وضوحه.. ولا يخفى على القارئ استجلاب الكثير من الأحداث من الواقع المرير للشخوص من موت وانتظار ورحيل ودور العجزة والذكريات الفارّة من مستودعات القهر والحرب.. فكانت توثيقاً في كثير من الأحيان لأحداث حصلت كقصة “رفرفة” التي وثّقت لذكرى شهداء المجزرة في قرية (اشبكي) الجنوبية.

فساتين للبيع
ومن القصص التي تناولت حدثاً واقعياً مستوحى من المجتمع يقوم على انتظار صبية لحبيبها انتظاراً طويلاً ومرّاً لينتهي بها عانساً على رصيف العمر، وعند تحقق الأماني المتأخرة كانت قد فقدت قيمتها وأصبح لحضور حبيبها ثمن أقل بكثير من ثمن عمرها السجين الذي ضيّعته بالانتظار على شرفات دارها وبين وريقات أزهاره… وقد حملت هذه القصة نهاية على درجة عالية من الإدهاش.. مذيلةً بهذه العبارة رغم محاولة التبرير والاعتذار: “هممت وهي تزفرُ النّفسَ الذي شهقته بجهد: أخرج.. “لتعلن بيع حياتها وذكرياتها وآمالها وأحلامها بلافتةٍ معلقّةٍ على الباب تختصر الحكاية ووجعها وتستأصل أورام العشق الجاثمة فوق الضلوع بعبارة “فساتين للبيع”.

كما لم تخلُ بعض القصص من الحوار… فالحوار له ميزة التعبير عن مكنونات النفس برشاقته وخفته.. وقد برز جليّاً في قصة (كائنات القاع).. إذ تبادل البطل حواراً مع الكاتب الروسي كحالة من التأثر به كقارئ دوستويفسكي، وقد عجّت القصة بالاقتباسات والحوار المتبادل الذي يخدم الحدث كحالة من التأثر والصراع النفسي الذي كان يعيشه البطل في لحظات الحرب وفي عمق قصّته.

وحش الحنايا
وأما عن الوصف: والذي لم يكن ترفاً لغوياً بقدر ما كان كشفاً عن خبايا النفس، وقد تجلّت في قصة “وحش الحنايا الرقيقة”.. فقد بلغ الوصف في هذه القصة درجةً عالية من الغوص في التفاصيل الدقيقة كذاك الصراع على الحياة والذي خلق من هواجس الضعفاء قوة.. ومن أمثلته حوض الأسماك في منزل أصابته رزية الموت، أمٌّ فقدت أبناءها، وأبقاها بعينين تائهتين ترقب صراع دام ٍبين سمكتين في حوض، أحال هذا الصراع السمكة الضعيفة في ليلةٍ وضحاها إلى وحش ابتلع جسد السمكة القوية لحظة تمكنها من السيطرة، والتي كانت تظلمها وتسلبها حتى قوت عيشها.. فتضعنا أمام واقع انتهازي عدواني غير مفهوم ينعكس على واقعٍ مُعاش استحال فيه الضعيف قويّاً وبدأ يفرّغ عقد ضعفه على هيئة عدوان مروّع مليء بالغلّ والحقد.. فالمرأة الثكلى والمراقبة لواقع السمكتين بعد صمتها وبعد فقدها لأبنائها وحلم زوجها بسماع صوتها الذي حوّلته الحياة إلى وحش؛ آثر قتلها فنطقت قبل مفارقتها للحياة: سافل سافل، وتنتهي حكايته بقطع لسانها والخروج بلا عقل، متهدّل الكتفين، ملتاثُ الخطى بصوتٍ متواثب بين الهضاب سافل…. سافل.

تنوّع الصراع الذي يتناغم مع الحبكة ويصل إلى ذروته مع العقدة بين الخارجي القائم على الحياة والموت بين الشخصيات، والصراعات الداخلية القائمة على المونولوج كما في قصة (الحالم الأخير)…

صدمة الخواتيم
القصص بكاملها من النوع البسيط الذي يقوم على البداية والوسط والخاتمة، وجلّها كما أسلفنا بشخصية رئيسة وأخرى متممة للحدث.. وقد قامت هذه القصص على الطبيعة التراجيدية المغلفة بالدم والموت والنهايات الحزينة…

أما عن أسلوب الكتابة، فجاءت لغة الكاتبة قوية، معبّرة وشاعرية ومعجمها اللغوي يميل إلى الفرادة، الاقتباس والتناص أحياناً والرمز الهادف، وقد امتلكت الكاتبة فائضاً لغويّاً فيما يخصّ الصور والاستعارات التي تخدم فكرها.. وهذا مشهد تصويري من قصة (الحالم الأخير): “يتأملّها بحنوّ، فيما هي تمزّق الضباب الرّقيق وتتقدّم”.. “تعبث الريح الدّفاقة بأوراقه، يمتقعُ وينقبضُ صدره.”
فيما جاءت النهايات مدهشة ومفتوحة، فإبداع الكاتبة لا يجعلك تتلقّف النهايات بسهولة، إذ لا بدّ من وضعك كقارئ في حيّز ضيّق تُعمل فيه فكرك ومخيلتك وذائقتك لتوقعك في صدمة الخواتيم.

قد يعجبك ايضا
جديد الكتب والإصدارات