“عطر الطين”.. رواية تنشر شذاها على منبر فرع حمص لاتحاد الكتاب العرب (نقلاً عن البعث)
حمص- سمر محفوض
أقام فرع حمص لاتحاد الكتّاب العرب ندوة حوارية بعنوان “قراءة في رواية عطر الطين للروائي فؤاد العلي”، قدّمها الناقد محمد رستم الذي بيّن في معرض قراءته أن طبيعة الآداب تكمن في أنه مادة غير يقينية، فهو يخلق عالماً فنياً موازياً للواقع، لكنه يتكئ على الخيال وعلى مفاعيل المبالغات والتجميل، لهذا فإن الحكم عليه يصبّ في فضاءات الرؤية الشخصية، ومن هنا كان لا بد أن تتعدّد القراءات والرؤى حول الأدب وروحه التي تتأتى من أنه يتعدى الدلالة المباشرة إلى الرسالة المشفرة، ويفرض استبدال علاقة القراءة بالتأويل بعلاقة القراءة بالفهم، مؤكداً أن النقد في مجمله ليس حفراً بإزميل النقائض على جسد النص، ولا شباكاً لتصيد الزلات والهفوات، إنما هو محاولة لتأكيد الجمال واستقصاء العطر الغافي في ثنايا الحروف، مؤكداً أن القراءة الشاملة والنهائية لأي عمل أدبي مستحيلة، لذلك فإن كلّ ما يقدم من نقد إنما هو قراءة تذوقية ورؤية شخصية، وأضاف أن المقالة النقدية يجب أن تنأى عن المصطلحات الفضفاضة والجافة التي تشكل زنازين تكبّل الرؤية النقدية.
وتابع رستم: عنون الكاتب روايته بـ”عطر الطين” مقدماً العطر كخبر بعد أن أودع المبتدأ طيّ الكتمان، حاملاً اللغة إلى جهة رائحة التراب مما يشي بحنين طافح إلى البيوت الطينية، وبساطة الحياة، والعودة إلى الجذور الأولى لتكوين إنسان.
تشكل الرواية التي صاغتها مخيلة فؤاد العلي صرخة تندّد بالتهريب وتفضح آثاره المدمرة على الفرد والمجتمع والبيئة من خلال تقديم شخصية فاشلة ومنحرفة تعمل في التهريب وتجني ثروات طائلة (كمال)، وبالمقابل لدينا التلميذ الكسول فراس الذي يعشق معلمته ويتوق لأن يصبح مهرباً رغبة منه في التمرد على واقعه، وخروجاً من حالة الفقر والفاقه انتقالاً إلى المستوى الاجتماعي الذي يتيح له تحقيق رغباته الصبيانية، وبالتالي هو لا يعير بالاً لوصايا جدته الاهتمام بالدراسة والابتعاد عن ابن عمه، بل يتبع خطوات ابن العم كمال الذي يعاني عدة أزمات اجتماعية (انفصال والديه)، ليبيّن لنا الراوي أن فراس لديه معاناته أيضاً بغياب الأب بسبب العمل في لبنان.
يحاول فراس تحقيق حلمه بالعمل كمهرّب لعلّه يجمع الأموال ويرتبط بالمعلمة الشابة هالة والتي تهرب بالنهاية مع ابن عمه كمال، ليتزوج فراس لاحقاً رنا التي يوجد فيها شبهاً بـ”هالته”، ومن ثم تعود هالة إلى البلدة وتطلب من فراس أن يوصلها إلى حمص، وفي الطريق تلاحقه سيارات الشرطة ويحاول الهرب لأنه يحمل شحنات ممنوعة فتنقلب السيارة وتصاب هالة ويدخل السجن، ثم تنكشف خيوط الرواية حيث يلتقي كمال وهالة ورنا وابنها ويطلق كمال النار على هالة لاتهامه إياها بالخيانة فتموت هالة ويموت معها ابن فراس الذي يتواجد أثناء إطلاق النار.. إلخ.
يشير الناقد محمد رستم إلى أن هذه الرواية تنضوي تحت عباءة الواقعية الانتقادية وتنحو إلى السيرة الذاتية بسرديات فراس الشخصية الرئيسية الذي اتخذ شخصية الراوي العليم، وأضاف أن الكاتب الذي أسّس روايته من خلال بيئة جغرافية حدودية يحاول أن يجعل منها بطلاً موازياً في عالم روائي مدهش، وهذا يشبه ما قدمه حنا مينا حين جعل من البحر بيئته الساحلية عالماً روائياً زاخراً بالصور والمشاهد والحياة. كذلك فعل الروائي العربي المشهور إبراهيم الكوني الذي أنبت من رمال الصحراء وقحطها عالماً يضجّ بالحياة.
في روايته ينحاز الروائي فؤاد العلي لتراب قريته موظفاً الجغرافيا في متن الرواية جاعلاً البقعة المتاخمة للحدود في دائرة الضوء، حيث طغى المكان كمنظور خلفي وكمحيط لعالمه الروائي، وقدّم بشكل دقيق وصفاً للبيئة الريفية والطبيعة والبيوت والأهالي والقيم السائدة، مركزاً على المتغيّرات التي شهدتها المنطقة، مؤكداً على ارتباط الإنسان بوعي المكان وتأثر الروح بالزمان، وأشار رستم إلى أن الراوي ترك بعض خيوط روايته منفلتة، مما ترك أثراً على البناء الدرامي ولم يتمكّن الكاتب من إدخال هدفه الحقيقي بحرفية إلى عمق الرواية مما دفعه لجعل كمال يقتل هالة والطفل، كما دفع فراس للانتحار بالسم حزناً على هالة وابنه.
كما غاص الراوي بحرفية إلى أعماق الشخصيات ودوافعها مقدماً عملاً أدبياً مميزاً لم يعتمد التداعي الحرّ للأحلام والرؤى، ولم يعتمد الفلاش باك في كسر تراتبية الزمن السردي، ولكن بالتأكيد حقّقت الرواية الجانب الجمالي، وتمكّنت من فرض الإيهام الفني على القارئ بأن ما صادفه من أحداث هو جزء من الواقع والحقيقة.
وفي تصريح لـ”البعث”، أكد الكاتب فؤاد العلي أن أي عمل فني هو جزء من تجربة ومخيلة الكاتب، وبالتالي تختلط الأحداث الواقعية بالمضافة ليخرج العمل بحلته المناسبة، لافتاً إلى أن مسرح الرواية هي تلك القرية الحدودية والتي تعجّ بالمتناقضات والمتغيرات التي شكلت دافعاً لأول محاولات الكتابة لديه.
تلاها قراءة بعض الصفحات قدمها الكاتب فؤاد العلي من روايته “عطر الطين”، ثم دار نقاش عن الرواية والأدب والكتابة وجدوى النشر في عالم متغيّر يتجه نحو السرعة والاختزال في مجمل أحداثه.