*زفاف آخر* •نزهة السيد الفداء تنشر القصة الفائزة بالمركزالثاني في مسابقة فرع حماة لاتحاد الكتاب العرب للأدباء الشباب لعام ٢٠٢٣ *زفاف آخر* •نزهة السيد (نقلاً عن الفداء)
أجلس الآن مع عائلتي، الكل يحتفي بي ويهتم لأمري، بالطبع لا بد من استغلال كل لحظةٍ بل كل ثانيةٍ، فقد جئتُ صباح هذا اليوم وسأغادر قبل طلوع الشمس، أمامنا رحلةٌ طويلةٌ جداً قبل الوصول إلى وجهتنا…..
خمسُ سنواتٍ مرت على فراقي لهذا المنزل وسكانه، فقد زُففتُ إلى إحدى الفتيان الشجعان، كنت آنذاك في الثالثة عشر، جميلة ذات بنية قوية بينما معظم الفتيات حولي يغلب عليهن الضعف والوهن، بخلاف الشبان الذين يخضعون لامتحان الوجود، بوضعهم وحيدين في عمر السنة في منطقة نائية، فيتساقط من لا يصلح ويبقى من يستحقُ الحياة……
وللآن مازلت جميلة، أنظر إلى المرآة أمامي، ملامحي لم تتغير كثيراً سوى بعض علامات التعب والإرهاق، فأنا لم أنَمْ لأيامٍ، كانت ليالٍ عصيبة، كنا بقربه أنا وزوجته الثانية، ساهرتين نضمد جراحه، غير أن إصابته كانت خطيرة، ولم يستطع أن ينفد منها، فبدأ الموت يتسلل إليه رويداً رويداً حتى أجهز عليه، مخلفاً ورائه زوجتين وولد، ليتني أنجبت منه ولداً، ولداً واحداً لكنتُ نجوت، غير أن مرور السنة الأولى على زواجي مع غياب تباشير الحمل دلت على أنني لا أصلح للانجاب…..
ها هي أمي تزينني بملابس جديدة، والفتيات حولي يضعن العقود والأكاليل، ولكن هذه المرة بدون ابتساماتٍ أوضحكاتٍ، وإنما بعبراتٍ، عبراتٍ سخيةٍ صامتةٍ، تكاد لا تسمح لكلمة واحدة أن تخرج كاملة بل يفصل بين حروفها شهقات…..
وفي المساء جلسنا، كمن رضي عما أنجز من تجهيزات، وتسامح مع كل ما حدث وما سيحدث، مسلمين مستسلمين، جمعتنا وجبة الطعام التي تم الحرص على إغنائها بما أحب وأشتهي، تسامرنا وتذاكرنا أجمل اللحظات التي تشاركناها، وتناسينا ما فقدنا هذا الصباح وتجاهلنا ما سيكون في قادم الأيام……
كثيرا ما تسألت عن المشاعر التي يمكن أن تسيطر على أمثال هذه الجلسات، التي كان محرماً علينا التكلم عنها أو حضورها، فقط أصحابها يحضرون ويعيشون ثم تطوى وتكتم في القلوب ولا يجرؤ أحدٌ على ذكرها ولو بينه وبين نفسه وإلا أصابته اللعنة وتكررت هذه الجلسات مراتٍ ومرات….
تسألت كثيراً عن هذه المشاعر وها أنا الآن أعيشها ولكني أعجز عن وصفها…..
انتهت أمسيتنا وودعتهم، ودعت أمي وجدتي وأخواتي وذهبت…..
حملني أبي بين يديه كمن يحمل خشبةً لا حياة فيها، هذه هي المرة الثانية في حياتي التي أكون فيها قريبة منه، استمعتُ لدقاتِ قلبه، كانت هادئةً منتظمةً بشكل لا يُصدق، لم ترف له عين ولم يخفق له قلب، حملني وصعد بي معهم إلى قمة الجبل، وحملوه هو أيضاً، ذاك الذي كان زوجي ومات، زففت إليه وهو حي، وسأزفُ له الآن مرةً أخرى وأشاركه قبره أيضاً…..