بؤرة التأويل بين النسق والدلالة في الشعر الجاهلي (نقلاً عن الملحق الثقافي للثورة)
محمد خالد الخضر
رغم تعدّد الجهود النقدية التي ارتادَت التراثُ الشعريُّ القديمُ، وخاضَت أغوارَه، وأظهرَت أبعادَه ارتأينا خوض غماره، والبحث في مضمارُه الخصب الواسع؛ استنطاقاً وتأويلاً، وكشفاً عمَّا استبطَنَت صورُهُ واستغورت أطواؤه، فهو ميدان واسع الحَلبات،عميقَ الأغوارِ، ينتظرُ من يبحر في أعماقِه، باحثاً عن البؤر الدلالية الكامنة في تعالقات وحداته اللفظية في إشعاعات الطاقة النصية التي تنبثق من صوره وتراكيبه فتنشر عبق المعنى والدلالة من غير مدخل، وغيرِ مَنهج، وصولاً إلى شعريَّة تتحقق في خفايا النص وأسراره، شعرية يبرزها المخبوء، وتشي بها الثقافة، ويكشفها المجاز، ويُغْنيْها الإيقاع.
يقتضي البحث عن البؤر الدلالية في النص الشعري الجاهلي حفراً في البنية العميقة للخطاب الشعري، في مستوياته التركيبية والدلالية، بوصفه بنية لغوية تنسجم عناصرها – العلامات والرموز والاستعارات -لتفسح المجال رحباً أمام إمكانات التأويل، فلا يمكننا تأويل نص عن الفتوة من غير إسقاط آخر عن العجز، ولا يمكن الحديث عن الانتماء دون أن يلوح في الأفق ما يحيل على الاغتراب. من هذا المنطلق تتضح سيرورة إنتاج الدلالة التي يتحقق بها وجود العلامة المنبعثة من السياق، ويمكن تحديد المؤوَّل بأنه مجموع الدلالات الكامنة في أطواء الإشارات، المثبتة داخل هذا النسق أو ذاك.
وفي هذا الكتاب تسليط الضوء بالتحليل والتأويل على شعر وثقافة ووعي هم الأصل في التراث الشعري العربي، وإظهار أهمية هذا الشِّعر العظيم وثقافته، وربطه بالفلسفة والأسطورة والفكر.وذلك بمادة نظرية وأخرى نقدية تحدد المصطلح والإجراء النقدي والأبعاد المعرفية.
وتقوم القراءة على رصد الأشكال السيميائية في النص الشعري من خلال فعل العلامة ومركزيتها باتجاه التأويل وإنتاج المعنى.
وفي هذه المدونة نصوص شعرية جاهلية، ما تضمره البنية اللغوية فيها، من بُؤر تتطلَّب سفراً في أعماقها، وحفراً في مضمراتها، استكناهاً لأبعادها الدلالية، بعد الإصغاء إليها، ومحاولة استكشاف مضمونها في ضوء ماتزخر به من قيم، وأبعاد دلالية تؤكد كثافتها، وتوثق أسرار إبداعيتها.
تعتمد الدراسة مناهج النقد المختلفة السياقية (كالأسطوري والنفسي والاجتماعي)والنسقي (كالسيميائي والنقد الثقافي)- بكثير من الحذر والملاءمة والمنهجية.
يحتوي الكتاب (بؤرة التأويل بين النسق والدلالة في الشعر الجاهلي)ثلاثة فصول يربطها خيط فني منهجي واحد هو مركزية المعنى في المبنى، وفي علاقة الدال بالمدلول، وفي تعالق الظاهر بباطن النصوص الشعرية التي توحِّدها قطبية الذات الشاعرة متراوحة في وجودها بين الذات والآخر، وبين الوجود والعدم.
جاء الفصل الأول بعنوان (الرؤى وممكنات التأويل) محمَّلاً بمبحثين هما:النص الشعري قراءة في ضوء الأسطورة، وفيه تم تقفِّي شعرية الصورة المؤسطرة من طقوس العبور الثلاثة ( الفراق، والضياع، والاندماج) في علاماتها المؤطرة بدلالات أسطورية، وماتفرع عنها من صور تمثلت في مشاهد الرحيل والفراق والغياب، فالمواجهة، والعبور، فالاندماج. وعُنون المبحث الثاني بـ(المعلقات بين قراءتين) هما قراءتا: يوسف اليوسف , بحوث في المعلقات, وقراءة وفيق خنسة,الآفاق القصيَّة, متناولين منهجية القراءة عند كل من الناقدين، والبؤر النصيِّية في قراءتيهما.أما الفصل الثاني الموسوم بـ (الأنساق وتشكلات الدلالة)، هناك قراءتان؛ الأولى منهما بعنوان: قراءة في أنساق الصراع الوجودي في شعر المثقب العبدي، والثانية بعنوان :تجليات الوجود في شعر أوس بن حجر. جاءت الأولى لتؤكد حاجة الشعر القديم إلى قراءة جديدة تظهر ثقافة الشاعر، وتبرز البنية النصية عند المثقب العبدي بوصفها حدثاً ثقافياً، من خلال تعارض الأنساق وتكاملها، تم فيها رصد فني لثقافة الصراع الوجودي النسقي على المستوى الإنساني والزماني والمكاني، أما المبحث الثاني في هذا الفصل فاستغور النص الشعري الأوسي بحثاً عن تجليات الوجود في مشاهد شعرية مختلفة، نذكر أهمها: مشهد المواجهة والمقاومة، ومشهد الفتوة، ومشهد الخصب، ومشاهد المكان الخاوي، فالرحيل فالفناء. وتقصَّى المبحث التشكيلات الضدية في حائية أوس بن حجر.
وانتهى الكتاب بفصل ثالث وُسِمَ بـ(التأويل واستجابة النص)، احتوى مبحثين؛ الأول منهما:المضمر النصي في صورة الذات الشاعرة في شعر بشر بن أبي خازم، وفيه تغيَّت الدراسة إبراز ما يباطن الذات الشاعرة من مضمرات تشكل ثقافتها القائمة على تناقضات الوجود الإنساني، وتم إبراز الذات في مختلف ظهوراتها: المستلَبة والفانية، والقوية، والمتخطِّية، والمِثال، وتناول المبحث الثاني: قراءة في البعد الدلالي للتشكيلات الضدية بمختلف أنواعها في النص الشعري الجاهلي؛ بدءاً من الثنائيات الضدية، مروراً بالطباق فالمقابلة، ثم المفارقة بأنواعها المختلفة، وصولاً إلى تحديد القيمة الوظيفية التي تؤديها الثنائيات الضدية في بنية النص المتحركة القادرة على التشكُّل. وفي ميادين الفصول وأطوائها مباحث رئيسة وفرعية تسعى أن تغني النص الشعري معنى، وتعطيه حقه من القراءة.
أما ماتوصلت إليه الدراسة فيؤكد الابتعاد لفكرة الدلالة وإنتاجها في النص الشعري عن طبيعة الشكل الشعري لهذا النص، فهي تتوازى ومعطيات الصيغة اللغوية القائمة على الإشارات المُكَثَّفة، والصور المحمَّلة برؤى ودلالات وعلامات؛ إذ لايمكن حصر رؤى الشعراء وأبعاد صورهم في تعبيرات سطحية أو معان ظاهرة، إنما في عمق ماتضمره هذه البنى وماتباطنه مختلف الصور والأساليب من معان ودلالات.
إن الغوص في مضمر البني اللغوية مرهون بالصياغة اللغوية، وطريقة الشعراء في بناء المعاني ورسم الصور، وطريقة تبليغ الخطاب الشعري؛ لذا كان علينا كقارئين للقصيدة الجاهلية أن ندقق بحدودها، ورسومها بوصفها خارطة معانٍ وأفكار، ندقق بسياق قولها وصولاً إلى تأويل دلالتها. وقد يتناسل النص الإبداعي الرصين نصوصاً وفق عدد القراءات ومر العصور، وآفاق التلقي المتغايرة.
لقد خاض البحث رحلة طويلة في فيافي النص الشعري الجاهلي، ووقف على أثر الوعي الشعري العميق في تأسيس الرؤية الجمالية للذات الشاعرة التي سعينا إلى إبرازها في بنية فنية لغوية، مغلقة في ظاهرها، ومنفتحة بحسب قدرات التأويل، وعمق الدلالات والمرجعيات.
لم تعتسف غيثاء قادرة الآراء في قراءة النص الشعري، ولم تخضع النصوص لمناهج معينة، بل كانت رهن المعطى النصي، رهن الرؤية والرؤيا، والفكر القائم بسببه، ساعية إلى الكشف عن مضامين النص الجمالية والمعرفية والسيكولوجية معتمدة أدوات عميقة في الكشف عن أبعاد الصور الفنيّة التي كانت لنا عوناً في استحضار حيوات أولئك الشعراء، ورغباتهم ورهبتهم، وقيم الجمال عندهم. فالإبداع الفني ليس إلا تعبيراً عن فلسفة جمالية ضمنية كانت وليدة التوجُّه الفكري والوجودي، من غير أن يكون انعكاساً للواقع أوتعبيراً مباشراً عن الفكرة والمواقف والتوجهات.
لقد احتكم النص الشعري إلى عاملين: أولهما هيمنة النسيج اللغوي الفكري الذي حدد مواطن الارتكاز فيه، وثانيهما البؤر الدلالية والإشارات بوصفها جسور عبور إلى عوالم المعنى العميق للصورة.
قدّمت الصورة الشعرية معايير جمالية تحدد مستوى الإبداع في هذا البحث، ومن أهمّ هذه المعايير ميل النص إلى النزعة التصويرية التي يتجلى فيها الانزياح عن المألوف، وبقدر هذا الانزياح يحقق النص سمة الشعرية، كل هذا أتاح طاقة لغوية متفجرة تتجلى بقدرة الصورة واللغة على الانزياح والتفرد وتكوين جماليات تصويرية، تؤسس شعرية النص الإبداعي.
بدا النص الشعري في مجمله تجلياً لرواسب اللاشعور الجمعي، أو صدى لثقافة الشاعر التي أظهرت معايشته ثقافتي الوجود والعدم، وسعيه إلى تخطي حاجز الفصل عن الوجود وصولاً إلى شعور الوجود.
وبيَّنت الدراسة أهمية الآخر للذات الشاعرة ومكانتها؛ إذ كثيراً ما انضوت الذات الشاعرة في سيرورة البحث عن الوجود تحت راية الآخر الذي ظهر وجودها في غيابه ناقصاً. فرحيل الآخر أزَّم الذات، وحمَّلها دلالات نفسيّة ورؤيوية عميقة عكست صور الماضي بما فيه من حياة ووجود، والحاضر بما يحمل من معاني الهدم والاندثار والخراب. وكان سبيل الذات الشاعرة لمواجهة هذا الاستلاب استحضار الذكريات علَّها تعيد إنتاج الزمن وتوازن الحاضر.
وأظهرت الدراسة أنّ ما أضمرته الذات الشاعرة – بمختلف تجلياتها – عكس ما أظهرت، فالذات الفاقدة أضمرت- في بعض الأحيان- سعياً إلى خلق إمكانات إبداعية تتحدى من خلالها عملية القهر المكاني لها، مصورة الإصرار على الثبات أمام عوامل الاستلاب، فحاولنا بذلك تفجير الطاقات الكامنة في اللغة؛ التي هي وسيلة خلق وإبداع.
يذكر أن الكتاب من منشورات اتحاد الكتاب العرب ودار س