الأخلاقُ والانتهازيّة.. صراعُ المُتناقضات (نقلاً عن الثورة)
د. محمد الحوراني:
لا أحدَ يُنكرُ وجودَ فئةٍ من المُثقّفين والمُبدعين والكُتّاب أصحاب القيم والمبادئ الرفيعة الراغبين في النهوض بواقعنا الثقافيّ والإبداعيّ والعلميّ والتعليميّ، وهم أصحابُ طموح ومعايير دقيقة وعالية تنشدُ النجاحَ الرفيع والنهوض في اتجاهِ واقعٍ يليقُ بالأمّة وثقافتها وتاريخها الذي يحملُ إرثاً رفيعاً من القيم والأخلاق والمُرتكزات الإنسانية البعيدة عن الانتهازيّة والرداءة، لكنَّ هؤلاء يَصطدِمُونَ، غالباً، بأشخاصٍ في قيادةِ المشهد الثقافيّ يُحاولونَ إدارةَ دفّتِه والتحكُّم فيه، كما أنهم يَجِدُونَ عوناً ودعماً من فئةٍ لا بأسَ بها من أدعياء الثقافة والإبداع، التي تسلّلتْ إلى المشهد في غفلةٍ من الزمن، وهو تسلُّلٌ أضعفَ المشهدَ الإبداعيّ، وأحبطَ كثيراً من الأقلام المُبدعة الصادقة والقادرة على النهوض بهذا المشهد وتخليصه من كثيرٍ من سلبيّاته التي علقتْ به نتيجةَ خيانةِ بعضِهم للأمانة وقبولهم بأشخاصٍ في المفاصل الثقافيّة لا يُحقّقُونَ الحدَّ الأدنى من الإبداع والفكر والثقافة والأخلاق، وهو ما مِن شأنِه أن يقذفَ بالمشهد الثقافيّ والإبداعيّ إلى الدّرْكِ الأسفل من التحلُّل والتسيُّب والفوضى، حينَها سيجدُ الكاتبُ والمبدعُ الحقيقيّ نفسَهُ قد انحدرَ سريعاً، وأصبحَ عاجزاً عن مُعالجةِ الخلل والضعف الكبير الذي تسلّلَ إلى الجسد الثقافيّ نتيجةَ الاستماعِ إلى أصحاب المعايير المُتدنّية، الطامحينَ إلى النجاح السهل، والأخذ بآرائهم.
إنّ التمسُّكَ بالقيم والأخلاق وتدعيم البيت الثقافيّ هو الضامنُ الرئيسُ لنهضة الأمّة، كما أنهُ الكفيلُ ببناء مُؤسّسات ثقافيّة وتربويّة قادرةٍ على تدعيم الأساس المعرفيّ والثقافيّ والإبداعيّ لكلِّ راغبٍ في الانضمام إلى هذه المُؤسّسات وتطوير إمكاناته وتحقيق حضوره الفاعل على مختلف الأصعدة.
صحيحٌ أنّ “التَّسفُّلَ أيسرُ من الترفُّع” كما يقولُ جمال الدين الأفغاني، لكنَّ الواجبَ علينا جميعاً أن نتعاونَ لأجلِ رفعةِ هذا المشهدِ والنهوض به، لأنّهُ الطريقُ الوحيد لتأسيسِ فعلٍ ثقافيّ قادرٍ على مُواجهة التحدّيات والحفاظ على الهوية، إضافةً إلى مُقاومة الأفكار والثقافات الهدّامة التي يُرادُ لها أن تُصبحَ بديلاً عن ثقافتنا وقيمنا، ليَسهُلَ اختراقُ مُجتمعاتنا والقضاء على منظومتها القيميّة والأخلاقيّة، وإحلال مفاهيم وأفكار بديلة عنها، ليست الليبراليّة والليبرالية الجديدة إلا واحدة منها.
وأختمُ بما قالَهُ المُفكّرُ المغربيّ عبد الإله بلقزيز في كتابه نهاية الداعية: “هي الأخلاقُ إذاً، وصدقَ شوقي الذي ماهَى بينَ بقائها وبقاءِ الأمم. لقد انهارت أخلاقُ الالتزام لدى عشيرةٍ من المُثقّفينَ الرُّحّل، الباحثينَ عن الماء والكلأ، يَضرِبُونَ مضاربَهم أنّى وجدُوها. باتت الأخلاقُ الوحيدة التي تستحقُّ أن يتحلّى بها المرءُ هي أخلاق المنفعة، ولكنْ بالمعنى الشخصيّ البحت، أنا، ومِن بعدي فليأتِ الطُّوفان، وهي أسوأُ أنواع أخلاق المنفعة”.