آثام.. من أدب الحرب (نقلاً عن الثورة)
الملحق الثقافي- رنا بدري سلوم :
«أطيب من الطّيب وأنقى من النقاء، وأكرم من الكرم أهل بلدي، فمن سلب منهم أشياءهم الرائعة؟ من سرق إنسانيّتهم؟ الناس بسطاء وطيّبون، فمن ذا الذي أغراهم كي يتحولوا إلى أشرار؟ هل الشّر علامة من علامات الحريّة؟ ما الحريّة؟ هل هي الدّمار والتشرّد والضياع والبغاء؟ أم هي الصراع على المال والسلطة؟.
رحل الأديب الروائي سهيل الذيب وبقيت تساؤلاته معلقة على جدران الزمن تلهو بها عقارب الوقت الكفيف، رواية أشبه بمرآة تشبهنا تحكي خذلاننا وقُبحنا وبشاعتنا وجمال أرواحنا في آن، لذا اصطفى الأطهار منّا وأهدى روايته «آثام» للذين ارتقوا في إنسانيتهم إلى مستوى السمو الأخلاقي والقيمي والعملي، الذين كافحوا من أجل عظمة الإنسان واحترام كينونته بعيداً عن دينه ومذهبه وعقيدته وقوميته، إلى الإنسان ناشر قيم الحق والخير والجمال.
تُعد رواية آثام من أدب الحرب فكتبها الذيب بحرفيّة عالية، بتفاصيل تفتح باب التساؤلات والاتهامات بكل ما حدث على أرض الواقع من خراب ودمار وقتل وتشريد وهو ما حدث لبطل الرواية «مبعاث» الذي يرفض فكرة الموت لتليق به انتصارات الحياة بتناقضات الخير والشر فيبقى الغالب هو الخير والحب أولاً وأخيراً.
كتب الناقد والروائي محمد الحفري في مقدمة الرواية «سيرٌ كثيرة وتفاصيلٌ مذهلة فيها الجرأة الواضحة على تخطّي مألوف القول شكلاً ومضموناً، وفيها الإنسان يبرز بكل تشوهاته وجماله ومحاسنه وتناقضاته العجيبة، وإذا كان لكل عمل من أعمال الكاتب السابقة خصوصيّة ما، وجماليّات بعينها، فإن لهذا العمل من الصفات ما يجعله سامقاً يطاول النجوم، وسنجد أنفسنا نلهث مع أحداثه المتلاحقة من دون توقّف لنتماهى مع لعبة الجسد الذي يخلعه صاحبه مثل قميص بالٍ، ليتركه ويمضي من دون أن يحدّه الزمان والمكان، جاعلاً من المستحيل ممكناً نناظر من بعده الحب الذي سيبقى من أجمل اكتشافات الإنسان فوق هذا الكوكب ولنعرف عندئذ أننا أمام اتساع ورؤى جديدة».
تنتمي رواية «آثام» إلى أدب الحرب، مؤكداً الأديب رياض طبرة برؤيته النقديّة للرواية بأنها «تنتمي إلى أدب الحرب بقوة ووضوح كاملين، ليس فيها إلا الحرب، وعلى هوامش هذه الصفحات الموجعة من صفحاتها الدامية يقف الحب سيداً وآمراً ناهياً، ويكاد أن يكون هو الحقيقة المطلقة المحرّكة للإنسان مهما حاول أن يخفي ذلك أو يأتي بأسباب أخرى كالرّغيف مثلاً، وسبب وجيه وعامل فعّال ومؤثر في حركة الفرد والجماعة، وربما المجتمع الإنساني كله، ويزعم طبرة أن الروائي الذيب نجح نجاحاً كبيراً في وضع الجنس رديفاً للحب على خلاف ما ذهبت إليه الروايات الرومانسية التي شكلت معظم ثقافة جيل ما بعد النكبة، فنراه قد أكثر من المشاهد الحسيّة والمشاعر الجنسيّة وغلبها على سواها، وهي تكاد تتشابه وتتطابق مع ما حملته رواية «زناة». والحرب هنا هي وقائع في مختلف الجغرافيا السوريّة، وآثارها حتى في الجوار أي في تلك المخيّمات والأديرة التي فتحت أبوابها للمهجرين، وليكمل مبعاث السوري بطل الرواية بحثه عن أسرته، عن أخويه وخلود، بعدما أفقدته الحرب أمّه، ودفعته ظنونه وتعجله في الحكم على الأشياء دون تدقيق وتمحيص إلى الظن السيئ بأبيه ليكتشف بعد فوات الأوان براءة أبيه، ويعتبر نفسه قاتلاً لذلك الأب الذي قضى آخر عمره بحثاً عن هذا الابن الضّال وربما عن أخويه اللذين لم يعرف عنهما شيئاً حتى الصفحات الأخيرة من الرواية، وهما اللذان جندتهما الجماعات المسلّحة في صفوفها عنوة فيمن جنّدت، وهنا يرى أن مبعاث هو نفسه بطل زناة، هناك كان الشك القاتل والجارح بالأم، وهنا بالأب، والبحث عن الأخت والعثور عليها في مصحّة نفسيّة هنا، أما هناك ففي دائرة الجنون خارج المصحة، وكثير من الأحداث التي مرّت معه في لبنان هي ذاتها التي لاقاها إبراهيم في لبنان، الفندق والمرأة التي تطلبه ليمارس معها الجنس والتهديد ومحاولة دفع المال له والقمار…
«آثام» وكما رآها معظم النقّاد والقرّاء بوصفها مدوّنة مهمّة لوقائع الحرب على سوريّة من عدرا العماليّة والتي أطلق عليها «عدروس» إلى كثير من المدن والقرى والعاصمة شرقها وغربها، وفيها سعي واضحٌ وحثيثٌ لإدانة حرب شرسة كسرت الكثير من القلوب وأزهقت من الأرواح أجملها وأنبلها.
أخيراً لابد أن الذيب ينظر إلينا من السماوات ينتظر مثلنا الإجابة، تساءلتها الرواية بلساننا جميعاً
«هل ستنتهي الحرب؟ متى؟ أفي هذا الزمن؟ أم عندما تتأكد شركات الأسلحة في العالم أن كل مخزونها باعته للعرب؟ لقد أصبح واضحاً إنهم يشعلون الحرب لكي يبيعوا أسلحتهم معهم حق، يجب أن تزدهر حياتهم مقابل إزهاق حياتنا نحن الجهلة الذين زينت لهم فكرة الحريّة ليموتوا من أجلها، وهم سعداء، وربما أبطال».
رحل الرجل الفاضل وبقيت رواياته التي قلّ مثيلها على رفوف المكتبة العربية. رحل جسده وبقيت صور الأب والمعلم الفاضل والروائي الحكيم وهو الذي كان يعترف للحياة بفضلها عليه بالقول:» تتلمذتُ على يد الحياة الظالمة من حولي، على العبوديّة والفقر المدقع وعلى التنمّر الأعمى وعلى النفاق الرهيب والأوجه المستعارة» أمّا أنا فلن أنسى من تتلمذتُ على يده، يدٍ تمدّ أغصانها كسنديانةٍ تحتمي بها القبّرات من الخوف والشتات والضياع.