بطعم التوت البري..رواية الألم والأمل (نقلاً عن الثورة)

الملحق الثقافي- مها حسن:
 
الأنثى ذاك المخلوق الشفيف التي تغني الحياة شعراً، مرحاً، حباً، وألقاً، تلك فطرتها البشرية، تحيا بها بقلبٍ عطوف دافئٍ يحنو أكثر ما يحنو على أهله، وحينما تتبدل تلك الطبيعة الفطرية للأنثى لتصبح عنيفةً قاسية، فهناكَ خطبٌ ما قد حلَّ بأهلها وأحبائها، صير رقتها إلى خشونةِ ألف صنديد، وهذا ما حصل مع أديبتنا الرقيقة «فلك حصرية»، عندما رأت ما آل إليه وطنها (الأهل) إلى خراب ودمار، أمسكت قلمها واستسقت حبره من دموعها وطوّعته لتخط معاناة شعبٍ كريم، عاش في فردوسه إلى أن أتى البوم وعاث بها خراباً.
«بطعم التوت البري» رواية بحجم المأساة، بحجم معاناة شعب.. طُردَ إلى أرض العذاب، من جنته الجميلة…
صورت أديبتنا في تلك الرواية شخوصاً من هذا الوطن، عاشوا على هذه الأرض بعد أن طحنتهم رحى الحرب ودمّرت البشر قبل الشجر والحجر، مستهلةً بقصيدة معبرة، من تأليفها، مستوحاة من واقعها الراهن بين ما كانت تحياه من مذاق حلوٍ (بطعم التوت) الوطن وحلاوته وذكرياته، ومرابع الطفولة والشباب، ممزوجاً بطعم حامض (التوت البري) يمجه الذوق الإنساني الذي تحياه الآن وتتجرعه مع كلّ الناس في أتون الحرب المستعرة.
أنت.. أنتِ.. يا طعم التوت البري
الحلو.. المر.. الحامض.. العقم
السلس، المعقد.. السهل الممتنع.
اللذيذ.. الكريه
فأنتِ.. أنتِ دهر من الحقبِ
وحقب الحقب من الدهر
يشاركها الكبير «نزار قباني» بقصيدته (النبوءة) التي تحمل النزف والوجع، في نبوءة مستقبلية رصدتها بصيرته الثاقبة عن وطنه ومستقبله بعنوان (سامحونا)…
إن تجمعنا كأغنام على ظهر السفينة
وتشردنا على كلّ المحيطات سنيناً وسنيناً
لم نجد بين تجار العرب
تاجراً يقبل أن يعلفنا.. أو يشترينا
لم نجد بين جميلات العرب
امرأةً تقبل أن تعشقنا.. أو تفتدينا
لم نجد ما بين ثوار العرب
ثاراً.. لم يغمد السكين فينا
سامحونا
وتسرد مسهبةً بألم أحداث الحرب لتسكب ألم الروح وترسمه في هيئة جرحٍ نازفٍ غائر صعب الشفاء، أخذت تصور معاناة الشعب السوري في ظلّ هذه الحرب الضروس والمحاولات اليائسة للتشبث بالحياة.. هرباً من فردوسهم المفقود بكلّ آماله وآلامه إلى أملٍ سراب بعد أن ضاعت أمانيهم بالمستقبل أدراج الرياح، و«نثار وطن».. وأصدق تصوير على هذه الحالة هي ما قالته أديبتنا على لسان غادة السمان مبتدأةً قصتها الأولى: «أي هربٍ ما دامت الأشياء تسكننا وما دمنا حين نرحل هرباً منها، نجد أنفسنا وحيين معها وجهاً لوجه».
الرحلة بحراً.. هي أولى تلك المحاولات التي لجأ إليها ذاك الشعب المكلوم، في رحلةٍ للموت، على متن قواربٍ مطاطية، معدة لرحلات صيدٍ بحرية شاطئية، لا تتجاوز عمقاً في البحر، تتسع في أقصى الحالات إلى ثماني أشخاص:
«كان منظر المهربين وهم يلقون البشر إلى داخله يشبه حزمة الحطب الجافة اليابسة التي اقتلعت من تربتها، ومات نسغها، وعبث بزرعها، وفرطت حبوبها، وتمزقت وريقات تويجات أزهارها تحت ظلال القهر والغربة والسقوط في وثن ثلة تقدر الدراهم، وتعبد النقود وبريق الذهب».
هذه الرحلة أوضحت للعالم مدى الاستهتار بحياة الشعب السوري، واستغلال تجار الحروب لأزمته، لإثراء جيوبهم وليكن ما يكون، إن غرقوا أو ماتوا أو اصطادوهم خفر السواحل، فكان أولئك التجار يأخذون في هذه الرحلة على هذه القوارب، أكثر بأربع أضعاف من قدرتها على الاستيعاب، ويأخذون مقابل ذلك مبالغ نقدية كبيرة، وبعملاتٍ أجنبية، ليهوي هذا القارب مستقراً في قاع المحيطات، آخذاً معه لحوماً طازجة تتغذى بها الأسماك والحيوانات البحرية، لكأنما كانت على موعدٍ مع وجبةِ غذاء دسمة، من أولئك المارقين.
«ألقيت بقدمي في الماء وكأني أزيح بهما ثقل عبءٍ كبير، متراكم، مؤلم ثقل السنين، وأكداس صور، وترانيم أصوات تناقلتها الريح، ودفنتها العاصفة، وغيّبتها الأحداث، وصنفتها في هوامش، الكلمات والذكريات.. لم أكن أشعر ـ حقيقة ـ هل الماء أفرغت ما بداخلي من أشياء وأشياء، أم أني أفرغت ما عجز القارب عن تحمله بعدما زاد الضغط عليه، وضوعف الوزن، واكتظت ـ حتى الحوافي ـ بالراكبين الهاربين، المفجوعين، البائسين».
«أغمضت عيني وتركت لهما بقايا خيوط كرى فيما بدأ كلّ ما هو حولي يبتعد عني رويداً.. رويداً.. غامت الصور.. وخفت الأصوات.. القشعريرة تستبد ببقايا حواسي.. لم أعد أجسر على الحركة أو أن أمد إحدى يدي.. انقباض شديد يعتصر صدري.. وغيمة حزن تهطل يأساً على ذاتي..
أسكن.. وأتجمد.. وأركن إلى مصيري القادم.. وأترقب حشرجة صدري.. وتوقفاً في قلبي.. وغمام ضباب في عيني.. وغياباً نحو البعيد.. البعيد».
لابدّ من فرصة للنجاة، ولابدّ أن تمنح الحياة فرصاً، فكان هناك بعض الناجين، وصلوا بعد معاناةٍ كبيرة صورتها الأديبة «حصرية» بأدَّقِ تفاصيلها، وسبرت أعماقها الغائرة، واصفةً المؤامرة على حياةِ شعبٍ بأكمله، من صناع الثقافة الغربية وزاعمي الحريات الديمقراطية، متلذذين بقتل الشعب السوري بألوانٍ شتى وصنوفٍ عديدة مع أنواع القتل والفتك..
مها حسن اتحاد الكتاب «٢٦/٠٦/٢٠٢٢ ٠٩:٥٦ م.
«أمسكوه بقوة وحاولوا تبصيمه إلا أنه رفض بشراسة والتجأ إلى الباب متخذاً من مقبضه مربضاً له، ونقطة دفاع وحماية..
حاول أكثر من واحد من البوليس فصله عن الالتصاق بالباب وفك راحتيه المتمترستين في عمق المقبض فانهالوا بالعصي على جسمه بكامله: يديه ورجليه وظهره وركبتيه، وكتفيه.. لم يتركوا قيد أنملة من مساحات جسده الآدمي إلا وأنزلوا به جام غضبهم، حتى كاد مقبض الباب يصرخ بهم آمراً مزمجراً: أي عالم متحضر ذلك الذي منه تنحدرون، وبأي ذنبٍ تسحلوه.. أيها المتوحشون مدعو الحضارة والإنسانية؟؟ بأي وأي وأي…».
ترسم تلك الأديبة بريشتها الحزينة بألوانٍ يابسة بلون الدم، حياة الأشخاصٍ الناجين، بعد رحلة الموت المصيرية، مصورةً لهم، في بلاد الحريات المزعومة، التي زرعت حرباً لتحصد أرواحاً ودماءً جديدة تحيي بها قارتها العجوز..
غريبٌ أنت أيها السوري، بلا سند وبلا هوية وبلا انتماء، تكابد الأمرين لتعيش في قوانين غريبة لم تكن تخطر على بالك يوماً، يتكشف أمامك زيف ذاك اللمعان لتلك الجوهرة (الغرب) لتعلم أنها زائفة فلا مكان لكَ في وطنك، وتحيا أسيراً لغربة قسرية حطمت ذاتك..
عاداتٌ ليست هي عاداتك ولا طريقة معيشتك، ولا حتى الهواء الذي تتنفس ولا الماء الذي تشربه، كلّ شيء غريب عنك، ليس مألوفاً لديك، فرض عليك، لأنك ببساطة حجر شطرنج، يلهو به اللاعبين، وعندما ينتهي دوره يرمى في مكان مهمل لا شأن له.
«كانوا جوقة متفرجين، ينظرون، ويراقبون، يرصدون ويتابعون يتهامسون ويسخرون، يتلونون كأفاعٍ سامة، باذلين أقصى جهدهم للتعتيم على خطة مشتركة، وفكرة يلتقون عندها في نهاية المطاف تقرّ وتوضح بجرأة حقيقية لا تشوبها شوائب الحياة أو تخالطها الظنون والتخمينات».
شهادات تلو أخرى، وصور ووثائق، أدرجتها الأديبة شاهداً أزلياً على الحدث، مزيحةً اللثام عن خفايا وأسرار لا يعلمها الكثير، لكن عاشها الكثير الكثير..
الرواية صورت القهر النفسي والتهجير القسري لشعب كريم في وطنٍ معطاء شعب طيب حطمته أحلام الغرب ومطامعه الواسعة…
حكايا عاناها الشعب السوري، جسدتها ريشة أنثوية بقلبٍ ساخط على كلّ من جلب الدمار لأرض الياسمين.
عن دار العراب صدرت الرواية في 286 صفحة من القطع المتوسط متضمنة وثائق وصور.
قد يعجبك ايضا
جديد الكتب والإصدارات