اللُّغةُ العربيَّة… بوتقةُ الهويّة وجِسْرُ التَّواصُلِ الحضاريّ (نقلاً عن الثورة)

د. محمد الحوراني:
واحدةٌ مِن أكثرِ لُغاتِ العالم ثراءً وغِنىً. بعيدةٌ عن الطُّفولةِ، ومُعانِدَةٌ للشَّيخوخَة. مكتملةٌ بأناقةِ مُفرداتها، ورحبةٌ بفُنونِها ومدلولاتِها. إنَّها لُغةُ المعاني والبيانِ والبديع، وفيها من المُرونةِ واللِّينِ ما مِنْ شأنِهِ أن يَجْعَلَها قادرةً على التَّكيُّفِ معَ تَطوُّراتِ العصرِ ومُقتَضياتِه، وهيَ الدّعامةُ الأقوى لِصَوْنِ الثَّقافة وحمايةِ المُجتمعِ من التَّشظِّي والضَّياع، إذْ لا سبيلَ إلى بقاءِ أحدٍ من الناسِ ووُجودِهِ دُونَ كلامٍ حسبَ رُؤيةِ ابنِ حزم.
ولمّا كانتِ اللغةُ العربيّةُ حاضرةً بقُوّةٍ اليومَ في فضاءِ العالَمِ الرقميّ، إذ إنّها الرابعةُ مِن بينِ أكثرِ اللُّغاتِ استخداماً على صفحاتِ (الويب) في إحصائيّةٍ نَشرَتْها (Internet World Stats – 2020)، بعدَ الإنكليزيّةِ والصِّينيّةِ والإسبانيّة، كانَ لا بُدَّ من الحفاظِ عليها لتكونَ العاملَ الأهمَّ في مدِّ جُسورِ التواصُلِ بينَ الحضارةِ العربيّةِ وغيرِها من الحضاراتِ العالميّة، ولا سيّما أنّها الوعاءُ الحقيقيُّ والأهمُّ للفكر، وهيَ البوتقةُ التي تجمعُ تُراثَ الأُمّةِ، وتستوعبُ مُقوّماتِ فِكْرِها وثقافتها وتَطوُّرها على مدى عُصورِ التاريخ، فهيَ أداةُ التعبير، ووسيلةُ التواصُل، وهي مادّةُ التوثيقِ التي تضمنُ البقاءَ والخُلودَ لفكرِ الأُمّةِ ومَعارفِها، ولا يُمكِنُ لأيِّ حضارةٍ إنسانيّةٍ أن تنهضَ إلا مُترافِقَةً معَ النَّهضةِ اللُّغويّة.
ولأنّ اللُّغةَ العربيّةَ كانتْ، ولاتزالُ، الأكثرَ قُدرةً على استيعابِ الثَّقافاتِ العالميّةِ كُلِّها، فقد غَدَتْ لُغةَ العِلْمِ والحضارةِ في أواخرِ القرنِ الثاني عشرَ الميلاديّ، وأصبحَتْ لُغةَ العِلْمِ لأكثرَ من ثمانيةِ قُرونٍ، لمّا أقبلَ عُلماءُ أورُوبّا على تَعلُّمِها وترجمةِ تُراثِها العلميِّ إلى اللاتينيّة.
إنَّ الاهتمامَ والعنايةَ باللُّغةِ العربيّةِ مِنْ أهمِّ الأولويّاتِ التي ينبغي لنا الاشتغالُ عليها تربويّاً وتعليميّاً وإعلاميّاً، ولا سيّما في زمنِ العَوْلَمةِ الثقافيّةِ وما بعدَها، ذلكَ أنَّ التَّحدّياتِ الكبيرةَ التي تُواجِهُ أُمَّتَنا وهويّتَنا وثقافتَنا يجبُ أن تَدْفَعَنا إلى مزيدٍ من الاهتمامِ باللُّغةِ العربيّة والحفاظِ عليها وتعزيزها، لأنَّ الحفاظَ عليها شرطٌ أساسيٌّ لتمكينِ الهويّةِ الوطنيّة، بل إنّ تدعيمَ مكانةِ اللُّغةِ العربيّة وتعزيزَ وُجودِها يجبُ أن يكونا استراتيجيةً تشتغلُ عليها المُؤسَّساتُ كافّةً لأجلِ الحفاظِ على الهويّةِ الوطنيّةِ والنُّهوضِ بها، فضياعُ اللُّغةِ يعني ضياعَ الهويّةِ واندثارَها، كما أنَّ بناءَ دولةٍ وطنيّةٍ قويّةٍ يستدعي بالضَّرُورَةِ وُجودَ أداةٍ لُغَويّةٍ خاصّةٍ وقويّةٍ تتميّزُ بها هذهِ الدَّولةُ، وتَجْعَلُها قادرةً على الوُقوفِ والتَّصدِّي للتَّحدّياتِ الخارجيّة، وحينَ تكونُ اللُّغةُ قويّةً فإنّها ستُسْهِمُ في بناءِ دولةٍ قويةٍ اقتصاديّاً وسياسيّاً وحضاريّاً، ولعلَّ حُضورَ اللُّغةِ العربيّةِ على نحوٍ قويٍّ وفاعلٍ في المُؤسَّساتِ التربويّةِ والتَّعليميّةِ والثَّقافيّةِ في سُورية، جعلَ من سُورية رَقْماً صَعْباً في الحساباتِ الدَّوليّة، كما أنَّ هذا الحُضورَ خلقَ ثقافةً قويّةً قادرةً على الوقوفِ في وجهِ التَّحدّياتِ التي تعرّضَتْ لها سورية عَبْرَ تاريخِها الحديثِ والمعاصر، ولا سيّما في العقدِ الأخير، بل إنَّ قُوّةَ اللُّغةِ والثقافةِ وتَماسُكَ الهويّةِ أسهما على نحوٍ فاعلٍ في ردِّ الهَجَماتِ المُعادِيَةِ التي تعرّضَتْ لها سورية وفي إفشالها.
لقد كانَ للُّغةِ الدَّورُ الأسمى والأبهى في خَلْقِ الهويّةِ الوطنيّةِ الجامعة عَبْرَ عُمْقِها الثَّقافيِّ والتاريخيِّ والجغرافيِّ، وعَبْرَ دَوْرِها في التَّنْشِئَةِ الاجتماعيّةِ الوطنيّة، وهي تنشئةٌ كانَ لها حُضورُها الباهرُ والفاعلُ في وجهِ التَّحدّياتِ التي تعرَّضَ لها وطنُنا.

قد يعجبك ايضا
جديد الكتب والإصدارات