في عزائه.. إجماع نادر على ناظم مهنّا و”غرفة القابون” إلى الواجهة (نقلاً عن البعث)
نجوى صليبه
عندما أعلن اتّحاد الكتّاب العرب، ممثلاَ برئيسه الدّكتور محمد الحوراني، عن إقامة مجلس عزاء للأديب الرّاحل ناظم مهنّا، تخوّف البعض من قلّة الحضور، لكنّ الحوراني كان على يقين من أنّ أولئك الذين أحبّوا ناظم مهنّا لا يمكن أن يخذلوه، يقول: لو كان لدينا عشرة أشخاص مثل ناظم لكان العالم أفضل بكثير.. نتحدّث هنا عن شخصية مختلفة كلّ الاختلاف في هذا الزّمن، شخصية مبدعة حقيقة همّها الأساس الارتقاء بالمشهد الثّقافي.. شخصية تجمع بين الأخلاق والثّقافة، وهذا ما نحن بأمسّ الحاجة إليه دائماً.. نعم هناك كثير من المثقّفين، لكن سؤال الأخلاق عندهم يبقى من دون إجابة!!.. الاتّحاد يخسر اليوم صوتاً مبدعاً وواحداً من أميز الكتّاب.
وعلى ما يبدو فإنّ ثقة الحوراني بالمحبّة التي زرعها مهنّا في مكانها، فدموع الأصدقاء سبقت كلماتهم وهم يتبادلون العزاء، ولاسيّما أولئك الذين جمعتهم “غرفة القابون” كما أحبّ تسميتها، تلك الغرفة التي استأجرها وعاش فيها أيّام الدّراسة الجامعية، وجمع بين جدرانها أصدقاء من كلّ المحافظات السّورية، يقول الشّاعر صقر عليشي: صعب عليّ أن أقف هذا الموقف.. تركني ناظم بشكلٍ مفاجئ.. قبل رحيله بيوم اتّصل ليخبرني بوفاة أعزّ صديقين لنا في الزّلزال الذي ضرب البلاد، ولم أكن أعلم أنّها المرّة الأخيرة التي سأسمع فيها صوته، مبيّناً: منذ أكثر من أربعين عاماً التقينا ولم نتفارق بعد، سكّنا معاً في غرفة بائسة في القابون وقضينا فيها أجمل لحظات حياتنا، لم يكن لدينا همّ غير الكتابة والقراءة والوطن.. كنّا نسارع إلى التّطوّع، في عام 1982 سهرنا ثلاثة أيام أمام مقرّ الجبهة الدّيمقراطية لتحرير فلسطين، وبعدها أتى من يعتذر منّا ويخبرنا بأنّهم إن احتاجونا سيطلبوننا، مضيفاً: ناظم شخصية عميقة بإنسانيّتها وفكرها.. هو في طليعة كتّاب القصّة القصيرة، وهو شاعر بخصوصية عالية، فقد كتب قصائد تتّسم بالطّرافة والخفّة والجدّة ونشرت كلّها في صحف مهمّة، عندما فاجأني العام الماضي بصدور ديوانه قلت: عاد ناظم إلى كتابة الشّعر وهذا أمر جيّد.. إنّه يكتب ملحمة بكلّ ارتياح.
الدّكتور راتب سكر واحد من الشّباب الذين احتضنتهم غرفة القابون بحبّ ودفء ووفاء، يقول: كان ناظم وصقر يضعان مفتاح الغرفة تحت حجر أمام الباب، وكان كلّ من يأتي إلى دمشق يعرف أنّ هناك مكاناً دافئاً يمكنه الإقامة فيه، لم يكن هذا المفتاح مفتاح غرفة، بل مفتاح مشروع ثقافي لحرّاس العالم من بسطاء أو صعاليك المحافظات السّورية الذين سرعان ما أصبحتُ واحداً منهم.
أربعون عاماً أيضاً كانت شاهدةً على صداقة مميزة جمعت الأديب بيان الصّفدي بالرّاحل مهنّا، يقول وقد خانته الدّموع: كان طفلاً كبيراً ودوداً ولديه طيبة قلب أفتقدها عند كثير من المثقّفين على الرّغم من عصبيته الطّارئة التي تذهب فوراً.. إنّه قاصّ مميز، وكاتب للأطفال مجتهد، وإداري ممتاز، لقد حرص دائماً على لمّ شمل المثقفين السّوريين، وكان ميّالاً إلى الحوار بين جميع المختلفين، وهذه قيم بدأنا نفتقدها.
لم تصدّق الشّاعرة والزّميلة انتصار سليمان خبر وفاة صديق العمر عندما سمعته أوّل مرّة، فاتّصلت بأصدقاء أكّدوا الفاجعة، تقول: فقدي كبير جدّاً، لا يعوّضه إلّا قلّة من الأصدقاء الأدباء، فالسّاحة الثّقافية السّورية تخلو شيئاً فشيئاً من هذه الأسماء المعرفية العميقة.. ناظم خسارة كبيرة للعائلة والأصدقاء والثّقافة لأنّه موسوعة معرفية، طيلة حياته لم يحبّ المظاهر، وبقي يعمل في الظّل من دون ضجيج وبعمق لرفع الهوية الثّقافية السّورية والعربية.
سنوات قضاها ناظم مهنّا في رئاسة تحرير مجلة “المعرفة” الصّادرة عن الهيئة العامّة السّورية للكتاب، وكما في حياته يشهد زملاؤه بعد رحيله بمهنيته وأخلاقه وإنسانيته. يقول الشّاعر قحطان بيرقدار، مدير منشورات الطّفل في الهيئة: تعرّفت عليه عندما تسلّمت رئاسة تحرير مجلة “أسامة”، كنت أراه مدرسة، يشعرنا وكأنّنا نعرفه منذ زمن طويل، وهو قمة في التّواضع، منذ أيّام قرأت مقالته عن غرفة القابون التي تدلّ على تاريخ كبير ليس لنا أن نبلغه ونصل إليه.. كنت أتعلّم منه على الصّعيد الثّقافي والمعرفي والأخلاقي.
ويضيف على ذلك الأديب حسام الدّين خضور: ترك ناظم لنا إرثاً لا يُستهان به على الصّعيد الثّقافي والعلاقات الإنسانية والموقف الوطني، إنّه من المثقفين الذين أخذوا موقفاً وطنياً كلّفه على الصّعيد المادي كثيراً، ومع ذلك وقف الموقف الذي يتّخذه المثقّف الحقيقي.
مواقف وخصال حميدة كثيرة تتوضّح لنا مع كلّ كلمة ودمعة يبوح فيها الأصدقاء والزّملاء، تقول الأديبة أريج بوادقجي: للرّاحل تاريخ قديم في أدب الأطفال واليافعين، لكنّه عندما أحبّ الكتابة للطّفولة المبكّرة استصعب الأمر في البداية ووجده تحدّياً كبيراً، وكنت أتفاجأ أنّه وبقدره الكبير يستفسر عن أي شيء، ويسألني عمّا إذا كانت القصّة مناسبة أم لا.
وبمختصر مفيد وحزين، يرثى الدّكتور وائل بركات زميله وصديقه القديم ويقول: لن أبكيه وهو يحبّ الابتسام، ولن أرثيه وهو يحبّ الحياة.. كلنّا نعرف كم كان ناظم مثقفاً، همّه الأساس وشغله الشّاغل الثّقافة، لقد فقدنا إنساناً مثقّفاً لا يمكن وصفه بكلمات أو كتب.. من سيعوّض تلك الصّباحات التي كنّا نقضيها بشكلٍ شبه يوميّ في الهيئة؟.. سيكون ناظم بيننا دائماً.. الأصدقاء يرحلون لكنّ العذابات تبقى.
بدوره، قال الدّكتور نايف ياسين رئيس الهيئة العامّة السّورية للكتاب: من حسن حظّي أنّي تعرّفت على ناظم مهنّا في الهيئة، ومن سوئه أنّي تأخّرت بمعرفة مفكّر واسع الأفق وعميق الثّقافة وعلى درجة عالية من الحرفية والمهنية.
زملاء وأصدقاء “مهنة المتاعب” أيضاً أبوا إلّا المشاركة في مجلس العزاء الذي أقامه اتّحاد الكتّاب للرّاحل ناظم مهنّا، يقول الأديب والزّميل رياض طبره: لم يكن ناظم قامةً أدبيةً فقط، بل كان رمزاً من رموز الوفاء والانتماء إلى الحرف والكلمة، ومن أكبر داعمي الإبداع، ولاسيّما عندما تسلّم رئاسة تحرير مجلة “المعرفة”، فقد كان منحازاً إلى الكلمة الملتزمة ولاسيّما في الدّراسات.
وكما كلّ الأصدقاء القدامي والجدد، فوجئت الشّاعرة هيلانة عطا الله برحيل شخصية كبيرة ومتعدّدة، تقول: كان مفكّراً عميقاً ونزقاً مبدعاً، ونعلم أنّ النّزق ملازم للمبدعين، مع العلم أنّي لم أره كذلك إلّا مرّة واحدة خلال زيارتي له في مكتبه، إذ قال وهو يشير إلى مخطوطات مصفوفة بقدر قامته: أنا أراجع كلّ هذه المخطوطات مع ثقتي بمن يقرؤها، مضيفاً: لن أرضي أحداً إلّا ما ترتضيه الثّقافة الوطنية والبحث الحق.
“ناظم مهنّا حارس الأمكنة والكلمات، حارس لعالم شكّله من نارنج روحه ونعناع جباله العالية”، بهذه الكلمات المرهفة يرثي المخرج والشّاعر علي العقباني الرّاحل النّبيل، ويضيف: لقد سكن القصّة كما سكنته هاجساً وهوية وبحثاً ومثابرة، هذا ما لمحناه في إدارته لمجلة “المعرفة” من خلال افتتاحياته ومختاراته الرّوائية وتعامله مع الكتاب والعاملين.. نزق كطفلٍ وعاشق كمراهقٍ وباحث ناضج.
“خسارة كبيرة على الصّعيد الإنساني والثّقافي”، عبارة يعيدها أيضاً الأديب إيّاد مرشد، مدير مكتبة الأسد الوطنية في دمشق، وكذلك موسى عبد النّور رئيس اتّحاد الصّحفيين، من منطلق أنّ الأديب شخصية عامّة، لذلك فهو خسارة لأسرته وللوسط الثّقافي والأسرة السّورية عموماً.
لأجل كلّ ما سبق من مشاعر ومحبّة واحترام، يمكننا القول إنّ ناظم مهنّا وبعد رحيله وحّد الصّف الثّقافي باتّجاه واحد هو المحبة والوفاء، يقول الأديب نزار بريك هنيدي: يشكّل ناظم حالةً فريدةً في الوسط الثّقافي السّوري، فمن النّادر أن يحظى شخص في هذا الوسط بإجماع الجميع، لم يكن له أعداء أو خصومات على الرّغم من أنّه لم يكن مجاملاً أو محابياً أو منتمياً إلى أي تركيبة خارجة عن العقل الثّقافي النّقدي الإبداعي.