عناقيد الهباء في “بارقات” منذر عيسى (نقلاً عن البعث)

علي فرحان الدندح

تتأسس التجارب الكتابية الحديثة وفق منظور انفتاحي على العالم بأسره، على اعتبار أن هذا العالم ملك للإنسانية جمعاء، وليس هناك أكثر قدرة على التواصل معه في اختلافه وتنوعه من الكتاب وفي مقدمتهم الشعراء، ذلك أن الشعراء حتى وهم يصفون حياتهم اليومية ومن خلال هذا الوصف نفسه يصفون تجارب إنسانية جديرة بالحديث عنها، وعلى هذا الأساس يقرأ الناس تجارب الشعراء قديماً وحديثاً، ويستحضرون العديد منهم مثل هوميروس والمتنبي وفيكتور هوغو وأدونيس والبياتي ونزار وغيرهم. ذلك أن هؤلاء الشعراء وهم يكتبون حياتهم اليومية، وبشكل من الأشكال يكتبون الحياة اليومية للعديد من الناس حتى وإن لم يشعروا بذلك في بعض الأحيان، فالشعر هو مرآة للمجتمع حتى وهو يغوص في الذاتية ويعبر عنها كما يريد ويشتهي، وهذا الاستجلاء ينطبق على صاحب البارقات الشاعر منذر  عيسى، إذ يمتلك من وجهة نظري شعرية متميزة، فهو يسعى من خلالها إلى استحضار كل مكونات الحياة اليومية التي يعيشها أو التي سبق له أن عاشها ويُعيد كتابتها وفق منظور شعري منفتح على الأساليب النثرية في أرقى تجلياتها الفنية، ما يجعل من كتابته الشعرية “معلقة” تسير في تيار القصيدة الحداثية، وتمتزج بكل منعرجاتها الجمالية.

“لا أدعي إبداعاً جديداً.. إنها قراءة.. تأملات.. في الحياة والموت، لكن شهوة الكتابة ومحاولة التعبير  هما الدافع لمغامرة أخرى أضيفها إلى مغامرات سابقة، وأترك للقارئ التحديد والحكم”، هكذا ينذر الشاعر متلقيه بعد الإهداء وقبل التقديم النقدي للشاعر الدكتور نزار بريك هنيدي، فما بين “شهوات متخيلة وسر التحول وعدالة الزبد والأصوات المبهمة والموت والنسيان والجنون والهباء والضباب والوهم والمصباح والخطيئة والرماد وارتباك النهايات و زيف الأقنعة والأوسمة والتراب والسفر والشهداء”.

يقدم الشاعر مشهداً سينمائياً قوياً بأجوائه، بحيث تبدو الكلمات وهي تتحول إلى صور شعرية فاتنة، تغري بمتابعة القراءة والغوص فيها، وهو أمر معتاد في تجربته، إذ يجعل الكلمات تتراقص في خفة جمالية مذهلة وهي تلتقي ببعضها البعض كي ترسم للمتلقي عالماً شعرياً فريداً، فمنذ أن “اكتشف نيوتن .. أن للأرض جاذبية.. و سحراً لا يقاوم.. زمن طويل مضى.. وأنا أجهد.. لأكتشف سر سقوطي.. أين؟؟.. على بابك.. كم تمنيت لو كان هذا السقوط تماهياً.. في تفاصيل التراب”، ومن منطق النظرية الاستعراضية التي تقول: “قصيدة النثر.. نكتبها.. لنعلن عريناً أمام الآخرين” من خلال استحضار مواضيع الجوال والمتة وربطة العنق و إشارات المرور والحاسب المحمول والرقم الشاذ، و غيرها من البارقات..

إن الشاعر وهو يفعل ذلك يُحوّل مجال اهتمامه من الحديث عن القضايا الكبرى، إلى الحديث عن القضايا الصغرى التي تمس كيان الإنسان المعاصر وتحدد نظرته إلى الوجود، وهو بذلك يسير في غمار التجربة الشعرية الحداثية ليس العربية فحسب، إنما التجربة الحداثية الشعرية في العالم كله.. إن الشاعر هنا يخلق عالمه الشعري الخاص فيه ولا يسير وفق عوالم الشعراء الآخرين ولاسيما الذين ينشغلون بمآسي العالم الكبرى وينسون أن الشعر يكون في كل ما يرتبط بالذات الشاعرة ومختلف خصوصياتها التي قد تكون صغيرة في نظر الآخرين لكنها كبيرة في نظره.. “فاستراحة الشاعر.. بداية البحث.. عن مطلع قصيدته القادمة”، ويقول أيضاً: “الشاعر عندما يموت وقد أترعته الحياة.. ينسى وراءه قوافل الكلام.. وصدى الغناء”.

في هذه المختارات يسجل الشاعر يوميات حياته بشكل شعري عميق، ويتحدث فيها عن انشغالاته التي تبدو صغيرة في نظرنا، لكنها تشكل العمق الإنساني بغوصها في أعماق الذات الإنسانية ولحظاتها اليومية التي تمر بزمن عابر، لكنها تترك في النفس آلاماً وجروحاً حيناً، وتخلف وراءها فرحاً ومتعة حيناً آخر، لكنها في كل الأحايين تسجل مرورها في شوارع الذاكرة وتنغرس في طياتها بحيث لا يستطيع النسيان الاقتراب منها، ذلك أنها هي التي تحدد شخصية الشاعر وتجعل منه مُعبراً عن كل هذه اللحظات الإنسانية المختلفة.

ومن هنا نصل إلى رؤية أن عيسى يبني شعره  على فلسفة التأمل في الحياة اليومية واستحضار مكوناتها، وكيفية مرور الزمن وتأثيره اليومي في الكائن، وفي خضم كل ذلك تحضر المأساة بكونها تلج أبواب هذه الحياة بشكل أو بآخر،  بالإضافة إلى أن الشاعر يمر من لحظة الهدوء والتأمل اليومي إلى لحظة الانفجار الوجداني الشجي، ما يجعل تأمله ينقلب من اللذة إلى الألم في زمن غير قابل للنسيان، وإذا كانت اللحظة، أو بعضها على الأقل، تخلف كل هذه الآلام النفسية، فإن العمر وهو يسري يشكل حياة أخرى، حياة ملؤها الفرح والأسى، السرور والحزن، كل ذلك في عملية مستمرة من دون توقف، ثم ما يلبث أن يتابع استعراض لحظات عمره الذاهب بسرعة البرق التي لا تتوقف أبداً، باحثاً عن ظله الذي يبدو أنه أضاعه في معترك الحياة اليومية التي لا تنقضي معاركها إلا لتبدأ من جديد، إنه وهو يفعل ذلك يسعى إلى القبض على الزمن عن طريق الكتابة عنه وتسجيل لحظاته الهاربة.

قد يعجبك ايضا
جديد الكتب والإصدارات