طوفانُ الأقصى.. إعادةُ كتابة التاريخ (نقلاً عن الثورة)
د. محمد الحوراني
لم تكن معركةُ “طوفان الأقصى” التي أقدمت عليها فصائلُ المقاومة الفلسطينية نتيجةً للرَّخاء والديمقراطية وإعطاء الفلسطينيين حقوقَهم، سواء داخلَ الأراضي المحتلّة الخاضعة لسلطات الاحتلال الصهيوني، أم تلك الواقعة تحتَ سيطرة السُّلطة الفلسطينيّة، بكُلِّ ما يُمارِسُهُ الاحتلالُ الصهيوني من حصار وتنكيل واقتحامات واعتداءات على أبناء شعبنا العربيّ الفلسطينيّ، أمّا أهلُ غزة فإنهم يُواجهونَ باستمرار حصاراً وقهراً ومُـحاولاتٍ لإذلالهم لأجلِ تهجيرهم وَفْقَ الـمُخطَّط الصهيونيّ لنتنياهو وقادته، القاضي بتهجير سُكّان غزّة إلى سيناء والعريش، وهو مُخطّطٌ أميركيّ صهيونيّ غربيّ يهدفُ إلى تقديم مُساعدات كبيرة إلى جمهورية مصر العربية مُقابلَ قَـبُولها بهذه الـمُقايضة الصهيونيّة الدنيئة.
أمامَ هذا القهر والظُّلم الواقع على أبناء الشعب الفلسطينيّ جميعاً، وبعدَ (نجاحات) صهيونية كبيرة في التطبيع مع عدد من الأنظمة العربية، إضافةً إلى (النجاحات) الصهيونية في إقامة التحصينات والجدران الـمُسلّحة بأحدث أجهزة الـمُراقبة والتنصُّت، ومُراقبة حَـفْـرِ الأنفاق، بتكلفةٍ فاقت المليارَ دولار، بدعم كبير من دُوَل العالم وشركاتها الـمُتخصّصة في الأمن والاتّصالات، أمامَ هذا الواقع، كانَ لا بُدَّ للشعب الفلسطينيّ المقاوم مِنْ أنْ ينتصرَ لكرامة الأمّة ولصرخات الحرائر وانتهاكات الأماكن المسيحيّة والإسلامية الـمُقدَّسة في فلسطين، وأن ينتصرَ أيضاً لوجع آلاف الأسرى الفلسطينيّين في سجون الاحتلال الصهيوني، بعدَ أن أمضى بعضُهم أكثرَ من أربعة عقود داخلَ سُجون القهر الصهيونيّة، ولهذا أقدمَ مئاتُ الـمُقاومين على العودة إلى أراضيهم الـمُحتلّة، مُذِيقِينَ العدُوَّ بعضَ آلام الحياة التي عاشُوها عقوداً طويلة، بعدَ أكثرَ من خمسةٍ وسبعينَ قهراً وذُلّاً من الأعوام التي ألقتْ بكُلِّ الوجع والتعب والـمُعاناة على أبناء هذا الشعب الذي طالَ صبرُهُ وانتظارُه، أملاً في إعادة الحقِّ إلى أهله ورَفْع الظلم الواقع على أهل الأرض وأصحابها، لكنَّ هذا الأملَ طالَ انتظارُه، كما أنَّ ألـمَ الـجُرح ازدادَ، وعَـظُـمَ نزيفُـه، لذلك كانَ لا بُدَّ من “طُوفان الأقصى”، وكانَ أملُ الأهل في فلسطين كبيراً في أنْ يتداعى الأشقّاء من أبناء العروبة والإسلام والضمير الإنسانيّ للوقوف معهم، لكنَّ الواقعَ كانَ عَكْسَ ذلك تماماً، فمن يقفُ اليومَ مع الأهل في فلسطين هم قلّةٌ قليلةٌ من الصادقينَ الذينَ آثَـرُوا الرُّكوبَ في هذه السفينة، يقيناً منهم بأنّها سفينةُ النجاة، وأنّـها وحدَها ما يَعْصِمُ أبناءَ الأمّة ممّا يتعرّضُونَ لهُ جميعاً من الإذلال والمهانة بسبب الاحتلال الصهيونيّ لأرضنا وما يقومُ به من مُـمارسات بحقِّ أهلنا وأرضنا ومُقدّساتِنا وتاريخ أمّتنا.
نعم، إنَّ ما قامتْ به المقاومةُ الفلسطينيّةُ ما هو إلّا محاولة لإعادة الأرض والحقّ الـمُغتصَب، وهي أرضُ هؤلاء المقاومين وحقُّهم، وهو تأكيد على أن الحق المغصوب لايعود بالورود والمفاوضات، وإنما بالمقاومة وحراب البنادق والكفاح المسلح، وليس من حق أحد انتزاع حق المقاومين الأبطال باستعادة النور والحق المسلوب، إن ماحدث صبيحة السابع من تشرين الأول ماهو إلا محاولة حقيقية لإعادة الضياء والنور إلى الفجر، وهي أيضاً محاولةٌ لإعادة تدفُّق الدم في عروقٍ عربيّة تَـجمَّدَ فيها، وأُرِيقَتِ الكرامةُ لأجلِ الحفاظ على العروش والمواقع، حتّى وإنْ انتُهِكَتِ الأعراضُ، ومُزِّقَتِ الأوطان.
لقد كانَ الموقفُ الغربيُّ مُـنحازاً بالـمُطلق إلى العدوّ الصهيونيّ في عُدوانِه على الأراضي الفلسطينيّة الـمُحتلّة، ولا سيّما على قطاع غزّة، بل إنّ الولاياتِ الـمُتّحدةَ الأميركيّةَ وحُلفاءَها سارَعُوا إلى عقدِ اللقاءات والتنسيق وحَشْدِ الجهود لتقديم الـمُساعدات بأشكالها كافّة إلى الكيان الصهيونيّ، لعلّـهُ ينجحُ في الانتصار على غزّة الـمُحاصَرَة والجائعة، غزّة العِزّة الـمُمسكة بكرامة الأمّة، والعاضّة على نواجذ الـمُقدَّسات والحقِّ الـمسلوب.
ولأنَّ الإدارةَ الأميركيّةَ كانت دائمةَ الانحياز إلى الكيان الصهيونيّ الـمُحتلّ، فقد خصّصتْ ملياراتِ الدولارات، وأرسلَتِ السُّفنَ وحاملاتِ الطائرات لـمُساعدة الكيان الـمُجرم في عُدوانِه على الشعب الفلسطينيّ الأعزل إلّا من إرادتِه وحقِّه في استعادة أرضه وحقوقه الـمُغتَصَبة، بل إنّ الولاياتِ الـمُتّحدةَ أرسلت العشراتِ من ضُبّاط وعناصر جهازَي الـ(FBI) و (CIA) لدعم المجرمينَ الصهاينة في حربهم على المقاومين في غزّة، وقد أعلنَ وزيرُ الخارجيّة الأميركيّ بوقاحةٍ مُنقطعةِ النظير وبعيدةٍ كُلَّ البُعدِ عن اللباقة الديبلوماسيّة، أنَّ زيارتَهُ للأراضي الفلسطينيّة الـمُحتلّة تأتي بصفته يهوديّاً، وليس بصفتِه وزيراً للخارجيّة الأميركيّة، كما أنَّ بعضَ الدُّوَل الأوروبّيّة وجّهَتْ تهديداتٍ إلى كُلِّ مَنْ يُحاوِلُ التظاهُـرَ
دَعْماً للشعب الفلسطينيّ، أو يرفعُ شعاراتٍ من شأنها أن تُسيءَ إلى الصهاينة، حسبَ زَعْمِهم، مُـتناسِينَ سياسةَ الإبادة الجماعية والأرض المحروقة التي يتّبِعُها الصهاينةُ بحقِّ أبناء غزّة، وهذا ليسَ غريباً على هذه الدُّوَل التي منحت المجرمَ القاتلَ “إسحاق رابين” جائزةَ نوبل للسلام، وهو الذي طالما حلـمَ بإغراق غزّة في البحر.
لقد أدّى الـمُقاوِمُونَ الفلسطينيّونَ واجبَهم تجاهَ أرضهم وشعبهم وأمّتهم، وأكّدُوا، للمرّة الأولى بعدَ حرب تشرين، أنّ الكيانَ الصهيونيّ، بكُلِّ ما يملكُهُ من قُوّة ودعم وتطوُّر في السلاح الـمُتوافر بينَ أيدي جُنودِه، أضعفُ بكثيرٍ ممّا اعتقَدْنا، وأنّ إمكانَ الانتصار عليه واستعادة الأراضي الـمُحتلّة أقربُ إلينا من حبل الوريد، ولكنْ هل نمتلكُ الإرادةَ والشجاعةَ وصوابيّةَ القرار بالوقوف إلى جانب الـمُقاومين ومُشاركتهم بشرفٍ في هذه المعركة؟!
إنَّ الـمُقاومينَ في فلسطين وفي جنوب لبنان يُدرِكُونَ جيّداً أهميّةَ ما يقومونَ به خلالَ سنواتٍ من نضالهم ومُقاومتهم، وما الإنجازات التي تحقّقت في “طُوفان الأقصى” إلّا حلقة من استراتيجيّةٍ مُحكَمةِ التخطيط لتحرير الأرض والانتصار للأسرى والمظلومين من أبناء شعبنا الفلسطينيّ وأمّتنا، وهي حلقةٌ باذخةُ البهاء بعد الإنجازات التي تحقّقتْ في معاركَ كثيرةٍ لم تكُنْ “سيف القُدس” إلّا واحدة منها.
اليوم تُعيدُ فصائلُ المقاومة كتابةَ تاريخ أمّتنا بحُروفٍ من نورٍ ونار من خلالِ ألقِ معركةِ “طُوفان الأقصى” وبهائها، ومِن خلالِ تزييفها للمقولات والقناعات الصهيونيّة بأنّ الانتصارَ على الكيان الصهيونيّ حُلمٌ وخيال، وأنَّ تحصينَ الكيان عسكريّاً وأمنيّاً يمنعُ أيَّ خَرْقٍ له، وهو ما ثَبَتَ زيفُهُ بعدَ تحقُّقِ الإرادة والرغبة الصادقة للـمُقاومين الذينَ أكّدُوا أنّ الأملَ بالتحرير والنصر كبيرٌ بعدَ عمليّةِ السابع من تشرين الأوّل ٢٠٢٣، وهو التاريخُ الذي يجبُ أن يكونَ فاصلاً في حياة شعبنا وأمّتِنا.