“صورة البطل المسرحي عند فرحان بلبل” بين الواقعية والتاريخية (نقلاً عن البعث)
آصف إبراهيم
شكلت تجربة الكاتب والمخرج المسرحي فرحان بلبل ظاهرة مسرحية مهمّة شهدتها مدينة حمص خصوصاً وسورية عموماً، وامتدت لأكثر من نصف قرن قدّم خلالها الكثير من العروض التي اتسمت في معظمها بالواقعية ومحاكمة الظواهر الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية السلبية، وحظيت هذه الظاهرة باهتمام الدارسين والباحثين في شؤون المسرح السوري والعربي عموماً، وقد خرجت عنها الكثير من المقالات والمحاضرات، ومنها ما قدّمه الكاتب والممثل المسرحي عبد الكريم عمرين مدير المسرح العمالي السوري السابق في مقر رابطة الخريجين الجامعيين بحمص تحت عنوان “صورة البطل المسرحي عند فرحان بلبل” والتي بدأها بسرد لمحة تاريخية يتطرق فيها إلى مراحل تطور الشخصية المسرحية عبر التاريخ منذ المسرح الإغريقي إلى مسرح القرون الوسطى ثم عصر التنوير وما جاء بعده.
أما عن شخوص فرحان بلبل فقد رأى أنه اعتنى بصناعة بطله النموذج على ضفاف الواقعية الاشتراكية ولم يأت توجهه هذا كنوع من التجريب، بل عمل تحت جناح الحركة النقابية العمالية، وكان همّه القومي والطبقي يدفعه لأن يصنع بطلاً يحتذي الجمهور بأفكاره وعواطفه، ولم يأت موقفه هذا من فراغ بل تكوّن من أحداث سياسية واجتماعية أثرت في تشكيل وعيه المسرحي. فقد بدأت تجربته المسرحية من مدينة القامشلي التي عُيّن فيها مدرساً حيث التقى هناك مع الممثل اسكندر عزيز وأثمر عملهما معاً عن تقديم عرض “الثأر الموروث” من تأليف بلبل، ومنه خرج نصه اللاحق “الجدران القرمزية” الذي قدّمه بعد عودته إلى حمص مع نادي دوحة الميماس وشكل ردة فعل قوية على هزيمة حزيران، ويعتبر هذا النص واحداً من النصوص المسرحية الكثيرة التي تناولت نكسة حزيران والقضية الفلسطينية منها “حفلة من أجل خمسة حزيران” لسعد الله ونوس، و”فلسطينيات” علي عقلة عرسان، ونص “لو كنت فلسطينياً” لممدوح عدوان، ونص “الدراويش يرقصون على الحقيقة” لمصطفى الحلاج، و”الزهور لا تذبل أبداً” لرشاد رشدي، و”رسالة إلى جونسون” لعبد الرحمن الشرقاوي… وغيرها.
تنتمي مسرحية “الجدران القرمزية” إلى دراما العائلة، كما يرى عمرين، حيث تتصادم فيها الشخصيات المتناقضة في مواقفها الفكرية والوطنية، يعكس بلبل من خلالها ردود فعل الطبقة الوسطى على الهزيمة، ونمط التفكير الشعبي، ويعيد أسباب الهزيمة إلى قصور ذاتي، حيث يتهم النحن غير محدّد لهذا النحن هل هو الشعب أم الأنظمة والفصائل السياسية، على عكس سعد الله ونوس الذي رأي أن مسؤولية الهزيمة تقع على عاتق أنظمة فاسدة وخائنة.
وفي مسرحيته القصيرة “الطائر يسجن الغرفة” يدعونا بلبل إلى الحياة، لكن عبر حكاية تقوم على حوار بين الشخصيات أقرب إلى الأفكار الذهنية منه إلى الحوار الدرامي، والتناقضات ما بين الشخصيات هنا لا تقوم بسبب المال بل بسبب عهد قطعه المحبان على نفسيهما أن يبقيا طائرين أسمى من الرغبة وأعتى من الجسد.
في هذه المسرحية يرى عمرين ثمة لاعقلانية في تركيب الشخصيات، فالمرأة والرجل يتعاهدان على الطهارة، ونقض المرأة للعهد ليس له مبرر منطقي، وفي هذا النص يدخل بلبل إلى الحياة لكن عبر حوار يقوم بين شخصيات شاذة، وهذا ما يراه عمرين أيضاً في نص “البيت والوهم” لكن بصورة أكبر.
في مسرحية “العيون ذات الاتساع الضيق” التي كتبها عام ١٩٩١ يتقدم بلبل خطوة إلى الأمام في فهمة لدور المسرح ووظيفته الاجتماعية ويتقدم خطوة أخرى في تقديم نص درامي متين البنية وواضح الفكرة وغنيّ بالشخوص، وفيها يكشف كيف تنهش البرجوازية والإقطاعية نفسها من الداخل، وكيف يأكل الكبير الصغير وتمارس الأخلاقيات العفنة، شخصيات المسرحية تستند على الانسجام الداخلي في أقوالها وأفعالها وصراعاتها، وتسير وفق منطق واضح ومبررات مقنعة.
وفي مسرحية “الحفلة دارت بالحارة” يعكس المادية التاريخية بصورة أدبية وفنية غير موفقة، خاصة وأن الكاتب استخدم الرمز مبتعداً عن تسمية الأشياء بمسمياتها كما فعل لاحقاً في نصوصه ذات المواضيع العمالية، وتبدو هنا شخصياته بلا طباع ولا ملامح إنسانية، وهي تعكس دور المثقف في ضياعه وتردّده، ويلمح إلى فكرته عبر شخوص تمثل معظم الطبقات والقوى، وهو تمثيل يعبّر عن ضبابية في رسم طريق الخلاص.
في مسرحية “الممثلون يتراشقون الحجارة” يبدأ بلبل الخطوة الأهم في مسيرة حياته ككاتب مسرحي، فهو يترك الساحات ليكون في المسرح الحقيقي الذي يعشق، مسرح المضمون والجمال، ينطلق فيه من الحاضر إلى الماضي الذي أراد أن يرويه بشكل مغاير، يعبّر بلبل عن نفسه كأديب وفنان يريد أن يغيّر العالم، ويقدم فيها بطله كما يجب أن يكون لا كما تقدمه كتب السيرة والموروث المتناقل.
لكن بلبل في مسرحياته اللاحقة يتوقف عن الخوض في الماضي ويتصدى للحاضر، وينحاز إلى الطبقة العاملة ويؤسّس لمسرح يحمل وجهة نظرها، لينتقل عمرين في بحثه إلى تحديد صورة البطل العامل في مسرح فرحان بلبل، ونص “يا حاضر يازمان” الذي يرى فيه الأكثر إيغالاً في الايديولوجيا، والأكثر حدة وقسوة، والأقل فنيات وزخرفات مسرحية، فهو حفلة ميلو درامية بامتياز يتصدّى فيه لموضوع الفساد في حالاته القصوى، والتحول البرجوازي الصغير إلى البرجوازي الطفيلي لنهب البلاد.
أما في نص “لا تنظر من ثقب الباب” فيقدم فيه نموذج النقابي المتردّد الذي يستكين أمام الخطأ، ويخلص المحاضر إلى أن مسرحيات بلبل العمالية تطرح مشكلات كثيرة، لكن جميعها تنحصر في مواضيع محدّدة مثل النضال العمالي والنقابي من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية واليقظة والحذر من الانحراف، وبتأطير بطله العمالي في نمطين اثنين، مناضل راسخ لا يتهاون، ومناضل لين يتهاون ويسقط رويداً رويداً، لكن دون أن ينتهي إلى الحضيض، بل يتوقف في منتصف الطريق، لا هو قادر على العودة، ولا هو بقادر على الاستمرار، هو نمط مشتّت وضائع.