رجل دين وأديب ومفكر ومصلح وناشط إنساني.. الأب إلياس زحلاوي في حوار فكري مع “الثورة”: ما من ثقافة وحوار دون إيمان ومحبة.. غزة تشبه فلسطين لألفي سنة خلت ولجوقة الفرح و”الصوفانية” قصص رائعة (نقلاً عن الثورة)

الثورة – حوار علا محمد:

حاورته صحيفة “الثورة” في مكتبه بدمشق، واكتشفت في قلب حكايته وتاريخه الطويل المفعم بالنشاط الفكري حكايته مع فلسطين، وحكايته مع الإيمان والحوار والنقاش والسلام، إنه الأب إلياس زحلاوي عميد الثقافة والفكر العربي، فهو ليس رجل دين جليل فقط، بل أديب ومفكر ومصلح وناشط في القضايا الإنسانية، الذي نذر سني عمره من أجل ترسيخ ثقافة الحوار والسلام، وهو الذي حوّل الكنيسة إلى مكان للثقافة والحوار، وهي أساساً مكان الصلاة والعبادة، لم لا وهو الذي يختزل المسألة بكلمات معدودات: “هل من ثقافة وحوار، دون إيمان ومحبة أولاً؟.
يجمع الأب زحلاوي المولود في دمشق عام 1932، في شخصه مواصفات رجل الدين الجليل والأديب المفكر المصلح والناشط في القضايا الإنسانية والعديد العديد من الخصائص والمميزات الفريدة لرجل في هذا العصر المتناقض المتخبط في الترهات حيناً وفي الفظائع أحياناً كثيرة. شرّفنا الأب زحلاوي باستضافته لنا في مكتبه الضيق بمساحته، الرحيب بغناه وحيويته، بما يحويه من كتب وصور ووثائق في كنيسة سيدة دمشق التي كان في لجنة شراء أرضيتها في بداية سبعينيات القرن العشرين في قصة شهيرة وكان لنا معه هذا اللقاء.

* حملتم همّ الإصلاح وحوّلتم الكنيسة إلى مكان للثقافة والحوار، كم عانيتم وإلامَ وصلتم من هذا؟
حسبي من سؤالك، اعترافك بأنني حوّلت الكنيسة إلى مكان للثقافة والحوار، على كونها، أصلاً، مكاناً للصلاة والعبادة، ولكن، دعيني أسألك بدوري: هل من ثقافة وحوار، دون إيمان ومحبة أولاً؟
وأما إشارتك إلى ما سمّيتها المعاناة، فأنا لا أرى أي جدوى في التوقف عندها، ذلك بأنّ لا شيء، جادّاً وجديداً، يمكنه أن يحدث على الصعيد الإنساني، من دون معاناة.. إلا أن المهم، في نهاية المطاف، هو “هذا الشيء” الجاد والجديد، الذي يستدعي أبداً متابعة لا حدود لها.
لذلك، كان الحديث عن نقطة الوصول التي طرحتِها، هو أيضاً دعوة إلى المتابعة المصمّمة في إيمان ومحبة.

* هل تعتقدون بما قدمتموه من أعمال مسرحية أنّ المسرح (ربما) هو المكان الأنسب لطرح القضايا المهمة وحلولها أم أن الكتب المنوعة أكثر تأثيراً وأجدى نفعاً؟
للمسرح لغة.. وتوقيت.. وفعالية.. ولسائر أساليب الإبداع الإنساني، لغة.. وتوقيت… وفعالية، إلا أن كل ذلك منوط بمدى إيمان “الإنسان المبدع”، في لغته.. وتوقيته.. وفعاليته.. من حيث أسلوب تصدّيه للقضايا، لا المطروحة وحسب، بل أيضاً تلك الواجب طرحها، في وجه التحدّيات الراهنة والمتوقّعة معاً.
وهذا هو بعينه ما حاولت أن أقوم به، على يقيني التام بمحدودية ما قدّمت، وبلزوميّات الطروحات القائمة والقادمة.. وعلى ما حلّ ويحلّ بالمجتمعات الحديثة عامة، والعربية خاصة، من وباء حقيقي في الإعراض المتفاقم عن الإبداعات المؤثرة، والقراءات الطويلة، والأبحاث الجادة.. إلا للكلمة أبداً حضورها، لأنها هي في البدء من كل شيء!

حادثة الصوفانية في دمشق كانت خارجة على كل المقاييس..

* كمٌّ كبير من المؤلّفات ما بين العام 1969 والعام 2024، كانت حصيلة ضخمة لفكر متنور ومتعدد المواضيع امتلكتموه وأفرغتموه في تلك المؤلفات، ولكن الملاحظ في هذا الكم اهتمامكم في أكثر من مؤلف بحادثة الصوفانية، فهل لكم أن تبرزوا لنا أهمية هذه الحادثة الفريدة؟
صحيح أنني كتبت في شؤون كثيرة، وأنني لأراها كلها، حتى اليوم، جادة، بل بعضها مصيريّ، مثل الصراع العربي الإسرائيلي، والحرية الفكرية، والحضور العربي المسيحي في الشرق كله، وكذلك الدعوة إلى التساوي فيه، إلا أن حادثة الصوفانية، كانت خارجة على كل المقاييس، بل ما كان لأحد أن يتوقّعها.. فقد بدأت، على فجأة، بانسكاب زيت معطّر من صورة ورقية صغيرة للسيدة العذراء، تحمل الطفل يسوع، في بيت عادي من أحد الأحياء المتواضعة في دمشق.
وما إن تحقّقت السلطة الكنسية من صحّة الواقعة، حتى تدفّقت الجماهير من مختلف الأطياف والأديان، للصلاة في البيت، في مزيج من اندهاش وفرح وسلام، غير مألوف لدى الجماهير العربيّة.
وكان أن تحقّقت أيضاً السلطات الأمنيّة، من صحة الواقعة، منذ اليوم التالي، أي يوم 28/11/1982.
وتواصلت الصلوات، المرتجلة أولاً، ثم المنظمة، ليلاً ونهاراً، في مجانية مطلقة، شاءها صاحب البيت، منذ اللحظة الأولى، إذ أعلن على لوحة عُلِّقت في صدر المدخل، عن رفضه القاطع لكل تبرّع، أيّاً كان.
وفي هذا البيت، وخلال الصلوات، حدثت أشفية من أمراض مستعصية، كان أولها شفاء سيدة مسلمة، من شلل مزمن في يدها وقد تمّ ذلك بحضور طبيب أردني مسيحي، ولكن ملحد، وهو لاجئ سياسي يعمل في إحدى الوزارات السورية، وله في دمشق، مع مسكنه، عيادته الخاصة.

وكان أن تعدّدت الوقائع المفاجئة والخارقة في أوقات لاحقة، ومنها ظهورات للسيدة العذراء، وتجلّيات للسيد المسيح، وقد ترافق معظمها برسائل هامة، نطقت بها أولاً السيدة العذراء، بدءاً من (18/11/1982)، ثم نطق بها السيد المسيح، بدءاً من يوم (31/4/1984)، بلغة عربية فصحى، ترافقت أحياناً بكلمات عاميّة.
وكانت هذه الرسائل كلها، ذات مغزى هام، وأحياناً خطير، يخص الكنيسة أولاً، ثم سورية والشرق العربي، فالعالم بأسره.
ولا بد من الإعلان أيضاً أن هذه الواقعة بمجملها، كانت الأولى بمثل هذا الحجم، تظهر فيها السيدة العذراء، ثم السيد المسيح، في بلد عربي، ويتكلمان خلالها اللغة العربية.
وقد وجدتني، منذ اليوم التالي لحدوثها، مقحماً فيها، من حيث لا أدري، وشيئاً فشيئاً، وجدتني أيضاً أُلزم نفسي بمراقبتها ومتابعتها في حضور شبه يومي، وتدوين وجوهها المختلفة، في أدقّ تفاصيلها، وتوقيتها، و”أبطالها”، وذلك في مسعى مني، عنيد وصادق، لاستجلاء حقيقتها وأبعادها، على الرغم من مقاومة أغلب المراجع الكنسية لها في دمشق، حتى اليوم، في تعنّت لا أجد له أي تبرير على الإطلاق.
* كان مؤلفكم الأخير (مواقف ورسائل مفتوحة) بجزأيه نافذة واسعة مشرعة على العالم الرحيب تواصلتم عبره مع شخصيات العالم المؤثرة في الأحداث، فهل كانت الردود على اختلافها مُرضية بنسبة جيدة أم لا؟
لو شئت أن أتناول سؤالك هذا في كل أبعاده، لطال بي الشرح، بما يتجاوز حجم هذا المقال الوجيز.
الحقيقة أني كتبت للكثيرين من المسؤولين الأعلى، في شؤون السياسة والكنيسة والدين.. إلا أني، في حقيقة الأمر، ما كنت أقصدهم، بقدر ما كنت أقصد الجمهور الواسع من القراء والمهتمين والباحثين… ولكم كان تجاوبهم عظيماً وواعداً!..
وأما الإجابات التي وردتني من “الكبار”، فقد كانت دون أيّ توقّع عدداً ومضموناً!

فِكر يبحث وحبّ يتوق مبادراتي في نطاق المسرح..

* أسّستم خلال نصف قرن العديد من التجمعات الثقافية والفنية المميّزة ولعل آخرها وأهمها (جوقة الفرح) فهل لكم أن تحدّثنا عن تلك التجمعات وأثرها على الشبيبة والناشئة من جهة وعلى المجتمع من جهة أخرى؟
من المسلّم به أنّ كلّ تأسيس يأتي ثمرة عاملين: فِكر يبحث، أو حبّ يتوق، وحاجة تنتظر.. أو تطلب.. وهذا هو ما حدث لي في مختلف المبادرات التي أتيح لي أن أقوم بها، في نطاق المسرح، والفكر والمجتمع، إلا أن لجوقة الفرح قصة جديرة بالذكر.. ففي عام (1962)، قَدِمت إلى دمشق، جوقة فرنسية شهيرة، تُعرف باسم “المغنّون الصغار، ذوو الصليب الخشبيّ”، وأحيت أمسية غنائيّة رائعة، في صالة سينما الزهراء. وقد ساءلت نفسي، إذ كنت أصغي إليهم: “هل أطفال سورية دون هؤلاء موهبة؟”. وسمعتني أقول لنفسي: “بالتأكيد، لا”؟
ولما عُيِّنتُ، عام (1977)، كاهناً مساعداً في كنيسة سيدة دمشق الجديدة، بادرت على الفور إلى اختيار (65) طفلاً من “مدرسة الرعاية الخاصة”، بدمشق، كانت تتراوح أعمارهم بين أربع وست سنوات، وشئتهم كلّهم من العائلات الساكنة بجوار الكنيسة، لأجنّبهم مخاطر الطرقات، وكتبت رسالة إلى ذويهم، أطلعتهم فيها على رغبتي في إنشاء جوقة كنسية، تتقن الترنيم في الطقوس المسيحية، فاستجابت خمس وخمسون عائلة. وفي ليلة ميلاد عام (1977)، فوجئ الناس جميعاً في الكنيسة، حتى البكاء، بترنيم الأطفال المتقن.
وقد شاء الله لهذه الشتلة الصغيرة، التي زرعت في غوطة دمشق، أن تسمع صوت سورية، في مختلف أنحاء الأرض!..

صُلب يسوع حبّاً بالإنسان وقام، ويُصلَب الإنسان في غزة وسيقوم..

*درستم اللاهوت في القدس، ماذا تعني لكم فلسطين وعاصمتها القدس، وهل ترون بارقة أمل قريبة لاستعادتها وتحريرها أم إن الطريق ربما يطول؟
الحديث عن فلسطين يطول، إلا أني أرى أن ما يجري اليوم في غزة يشبه إلى حد بعيد، ما جرى في فلسطين أيضاً، لألفي سنة خلت، فمنذ ألفي عام، صُلب يسوع في فلسطين، حبّاً بالإنسان، كلّ إنسان، وكان أن قام، فقام معه عالم جديد، واليوم، أكثر من أي وقت مضى على فلسطين، منذ (75) عاماً يُصلَب الإنسان في غزة، على مرأى ومسمع كلّ إنسان، ودفاعاً عن كلّ إنسان وإني لأرى في جميع شهداء غزة، من أطفال وشابّات وشبّان، ونساء، ورجال ومقاومين مسحاء العصر الإنسانيّ المرجوّ الذي سيقوم إنسانه الجديد من حضارة الموت الغربية، الغارقة في “المادة والشهوة والشهرة، والذي تتجلّى ملامحه المتوهّجة، على نحو خاص، في شبيبة الجامعات الأميركيّة، والأوروبية، وإنّ غداً لناظره قريب.
لم يكن اللقاء مع الأب إلياس زحلاوي كافياً وشافياً ومنصفاً، فقامة و هامة باسقة كمثله لا يغطيه لقاء ربما لم يتجاوز الساعة في مدّته، وكم نحن بحاجة إلى أكثر من مفكر ومصلح ومتنور كالأب إلياس زحلاوي في هذه الأيام القاسية.

 

قد يعجبك ايضا
جديد الكتب والإصدارات