حتّى لا نَخُونَ تاريخَنا ودماءَ الشُّهداء (نقلاً عن الثورة)
د. محمد الحوراني
يحقُّ لأبناء الشَّعب العربيّ السُّوريّ الفخرُ بأنّهم الأكثرُ قُدرةً على إفشال المشاريع التي تستهدفُ الأمّةَ، والأكثرُ تمسُّكاً بالثوابت والمبادئ، إلى جانب ثُلّةٍ من الشُّرفاء من أبناء الأمّة القابضينَ على جمرِ الثوابت والمبادئ الوطنيّة، والرافضِينَ كُلَّ المُحاولاتِ الرامية إلى التطبيع مع الكيان الصهيونيّ، وهُنا يُمكِنُنا القول:
إنّ أخطرَ ما تتعرّضُ لهُ القضيّةُ الفلسطينيةُ خاصّة، وقضيّةُ الصِّراع العربيّ الصهيونيّ عامّة، هو المُشاركةُ في قتلِ هذه القضيّةِ وتصفيةِ دمِها الطاهر بأيدي بعضِ أبناء الأمّة، سواء أكانَ هؤلاء من المُتآمرينَ عليها والمُنخرطينَ في المشروع الصهيونيّ، أم كانوا من أصحاب القلوب الطيّبة من المُساهمينَ في دفنِ قضيّتِهم المركزيّة، وهم يَحْسَبُونَ أنَّهُم يُحسِنُونَ صُنعاً.
نعم، إنّهُ لَمِنَ المُؤسِفِ حقّاً أن نُسهِمَ في استقبالِ بعضِ المُطبِّعينَ ودُعاةِ التقارُبِ مع الكيان الصهيونيّ المُحتلّ، بينما يُمعِنُ هذا الكيانُ تقتيلاً وتشريداً وهَدْماً لمنازل أبناء فلسطين، معَ استباحتِهِ حُرْمَةَ بلدِهم وقَصْفِهِ والاعتداءِ عليه، في مُحاولةٍ منهُ للنَّيل من إرادة الشعبِ الأصيل المُقاومِ الذي أفشلَ مُحاولاتِ العدوِّ ومُرتَزقَتِهِ كُلَّها للنَّيلِ من كرامةِ بلدِهِ واستقلاله، بعدَ كُلِّ الدَّمارِ الإنسانيِّ والعمرانيّ والاجتماعيّ الكبير الذي هشّمَ الجسدَ العربيّ، وجعلَهُ ضعيفاً وغيرَ قادرٍ على مُواجهةِ المُحتلِّ الصهيونيّ.
وعلى الرغم من الوسائلِ القمعيّة كُلِّها التي استخدمَها المُحتلُّ الصهيونيّ، مُتَمثِّلَةً بوسائلِ الإبادة الجماعيّة، واتّباعِ سياسةِ الأرض المحروقة، وهَدْمِ البيوتِ على رؤوسِ ساكنيها، فإنَّ شعبَنا العربيَّ الفلسطينيَّ لا يزالُ يُقاومُ الهمجيّةَ الصهيونيّة بصَدْرِهِ العاري إلّا مِنْ إيمانِهِ بعدالةِ قضيّتِهِ ويقينه بالنَّصْر الأكيد، وهو الإيمانُ الذي دفعَ الـخُلَّصَ من أبناءِ الأمّة إلى إفشال المشروع الصهيونيّ بنُسخَتِهِ الجديدة المُتمَثِّلَةِ بما أُطلِقَ عليه كَذِباً وبُهتاناً “الربيع العربيّ”، وهو مشروعٌ كانَ يهدفُ إلى تمكينِ الصهيونيِّ من رقابِ الدُّوَلِ الرافضةِ إقامةَ أيِّ علاقةٍ معَ المُحتلِّ الصهيونيّ، والمُتمسِّكةِ بخيارِ المُقاوَمة، وعلى رأسِها سورية، بل الرافضةِ وُجودَهُ أصلاً، والحريصةِ على اقتلاعِهِ من صَدْرِ الأمّة.
ولأنَّ الشُّرفاءَ من أبناء الأمّة يَرفُضُونَ خيانةَ دماءِ الشُّهداءِ والجرحى، ويَحْرِصُونَ على التمسُّكِ بثوابت أمّتِهم، فقد كانوا الأكثرَ رفضاً لمُحاولاتِ التطبيع كُلِّها معَ المُحتلِّ الصهيونيّ، سواء أكانَ هذا التطبيعُ سياسيّاً أم اقتصاديّاً أم ثقافيّاً، لا، بل إنَّ رَفْضَهُمُ التطبيعَ الثقافيَّ كانَ الأشَدَّ، وذلكَ حرصاً منهم على ثقافةِ الأمّةِ وتاريخِها ومُستقبلِها.
ولهذا، فلا غرابةَ أن تلتهبَ صفحاتُ مواقعِ التواصُلِ الاجتماعيّ، رَفْضاً واحتجاجاً على استقبالِ بعضِ الكُتّابِ والفنّانينَ من أصحابِ المواقفِ المُؤيِّدةِ لإقامةِ علاقةٍ معَ المُحتلِّ الصهيونيّ ومُحاولات أنْسَنَتِهِ وتقديمه على أنّهُ من أبناء المنطقة أو شريك لنا في الإنسانيّة، إيماناً بأنّهُ لا يحقُّ لأحدٍ دعوةُ أيِّ فنّانٍ أو كاتبٍ أو مُثقَّفٍ مشبوهٍ أو رماديّ الموقف، ليكونَ حاضراً على أرضٍ قدَّمتْ آلافَ الشُّهداء لتستمرَّ الحياةُ عليها، وهيَ التي تستحقُّ الدِّفاعَ عنها والتفانيَ لأجلِ استقلالِها وبقائِها حُرّةً كريمة.
وإذا كانَ التطبيعُ السياسيُّ يستهدفُ إقامةَ علاقاتٍ سياسيّة ودبلوماسيّة واقتصاديّة معَ المُحتلِّ الصهيونيّ، فإنَّ التطبيعَ الثقافيَّ يستهدفُ تشويهَ الذَّاكرةِ وكَيَّ الوعيِ العربيِّ، من خلالِ مُحاولَتِهِ النَّيلَ من الإبداع العربيّ في حُقولِهِ كُلِّها، ولا سيّما أنّ الصِّراعَ العربيّ ضدَّ الصهيونية وأهدافها وأخطارها على الوطن العربيّ، وكذلك مقاومة الأطماع الغربيّة في وطننا وثرواته، تَمَثَّلا في عناوينَ رئيسةٍ في إبداعِنا الأدبيِّ والفنّيّ من بُحوثٍ وشِعرٍ وروايةٍ وقصّةٍ وموسيقا وأُغنياتٍ ومسرحٍ وغيرِه… فأيّ اتّجاهٍ ستَسلُكُهُ هذه الإبداعاتُ في ظلِّ التطبيع الثقافيّ الذي يُحاوِلُ بعضُهم الترويجَ لهُ على نحوٍ أو آخر، وفي ظلِّ المُتغيِّراتِ السياسيّة والاقتصاديّة، وتغيُّر المفاهيم والأفكار التي يُحاولُ بعضُهم الاشتغالَ عليها؟!
إنَّ سورية بما قدّمَتْهُ من مواقفَ أصيلةٍ عَبْرَ تاريخِها، وبدِماءِ شُهداءِ العزّة والكرامة من أبنائها، تَرفُضُ أن يطأَ أرضَها، ولو زَحْفاً على جبينه، كُلُّ مُتَصَهْينٍ ومُطبِّع، كاتباً كانَ أم فنّاناً أم سائحاً أم مُخلِّصاً من الفاقةِ التي يعيشُها أبناءُ هذا الشعب الذي لا يزالُ يُردِّدُ معَ أجدادِهِ: “تموتُ الحُرَّةُ، ولا تأكُلُ بثَدْيَيْها”.
لقد كانتْ سورية بكُلِّ الوطنيّينَ من أبنائها، كُتّاباً وأُدباءَ وفنّانينَ وإعلاميّين، وستبقى، القلعةَ الحصينةَ الرافضةَ أيَّ اختراقٍ مِنَ الأعداءِ وأدواتهم، وسيبقى الشعبُ السوريُّ الأكثرَ وفاءً لدماءِ الشُّهداءِ في مُدُنِهِ وقُراهُ كُلِّها.