ثلاثية محمد الحفري… صاحب الظل الطويل (نقلاً عن الثورة)

الملحق الثقافي- عفيف حمدان:
ضمن منشورات سلسلة المسرح الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب صدر كتاب «صاحب الظل الطويل» للمسرحيّ الأديب محمد الحفري. ويتضمن الكتاب ثلاث مسرحيات: الخرساء/ و/حلم ورسالة/ و/صاحب الظل الطويل/. وغلب الطابع الاجتماعي والإنساني على الكتاب، حيث عالج قيماً اجتماعية سلبية كالجشع والجبن والخوف، وأخرى أخلاقية إيجابية تمثلت بالشهامة وبعواطف الحبّ الراقي.

جاءت المسرحية الأولى «الخرساء» موزعة على أربعة عشر مشهداً ضمن فصلين رئيسين. ورصد الكاتب سبع شخصيات ثانوية، ويلعب ثلاث منهم أدوار شخصيات رئيسية: رجاء وزوجها، وزعيم الغجر الطويل الذي اتخذ اسم «طيف» مما يوحي بأنه صنو بطل مسرحية صاحب الظل الطويل التي عنوّن بها الكاتب كتابه.
تسرد «رجاء» منذ البداية حكاية المسرحية حيث يتعرض الزوجان «ملحم ورجاء» لسيول جارفة، ساقتهما ليلاً «الرياح العاتية والأمطار والعتمة والخوف» إلى منطقة نائية صحراوية لتوقظهما «شمس الصباح الحارقة». ويهاجمهما قاطعا طريق «لصّان» فيدّعي «ملحم» بأن رجاء أخته! ويهرب «ملحم» منهما تاركاً لحْم زوجته نهباً لاغتصاب قاطعيّ الطريق. وبعد أن نال اللصان حاجتهما الحيوانية من «رجاء» التي «فقدت الوعي» من مرارة اغتصابها لعدة مرات، يعود «ملحم» مزوداً بسكين ويُردي اللصان المنهكان من اغتصاب زوجته، بعدّة طعنات ويستولي على حصانيّ اللصين والمسروقات التي بحوزتهما (مصاغ ونقود كثيرة تكفيه حتى أولاد أولاده!). وينتقل مع زوجته إلى قرية تحتفي به كبطلٍ تمكن من القضاء على اللصوص وأنقذ زوجته التي أجبرها على الانزواء مدعيّاً أنها «خرساء» لكي لا تفضح جبنه وتخليه عنها! لكن الجنين في أحشائها سيصعّد من شدة حبكة المسرحية. مما تضطر الزوجة للهروب بوليدها «مناع» وتحتمي في مضارب شيخ الغجر «طيف» الذي يأويها ويعيدها -بضمانته – إلى «ملحم» بعد أن عاتبته رجاء لجبنه وخوفه «هل من أحد يدعي الشرف والرجولة يترك زوجته لضواري الصحراء ويهرب دون أن يستجيب لاستغاثتها وتوسلاتها». وتصل المسرحية إلى ذروة الحبكة عندما يحول الابن «مناع» من انتقام والدته من «ملحم» الذي يلح بالطلب من زوجته إن كان «مناع» ابنه أو «ابن الحرام»! وتنتهي المسرحية دون معرفة ملحم الحقيقة التي تؤرقه مخافة أن يرث أمواله «ابن الحرام»، وهو يطرح سؤالاً معلّقاً لـ»مناع» في المشهد السابع من الفصل الثاني: «هل أنتَ ولدي يامنّاع؟»!
وقد وُفق الكاتب باختيار أسماء هذه المسرحية بعناية فائقة فجاء اسم الزوج المشتق من «لحْم» ومنها» اللاحِم». الذي ترك لحم زوجته نهباً لقطاع الطرق. كما لم يُفد زوجته المسماة «رجاء» توسلاتها لزوجها بالحفاظ عليها فاستغل «ملحم» اغتصابها ليصبح ذا جاه ومال. وختم الكاتب المسرحية باسم «مناع» الذي امتنع عن الإجابة على سؤال والده الذي بقي معلقاً في أذهان القرّاء. ويمكن للمتلقي أن يصل إلى أن اختيار الكاتب لاسم «طيف» الذي أغاث «رجاء» بأنه بات وجود قيم الشهامة والإغاثة طيفاً خيالياً في زمن التوحش المادي للمجتمع الاستهلاكي في أي زمان ومكان. مع أن الكاتب حاول المواءمة بوصف شيخ الغجر بأنه طويل القامة وباختياره اسمه «طيف» الذي يوحي أيضاً بالظل بما يتناسب مع عنوان الكتاب «صاحب الظل الطويل».
رسالة حلم
توزعت أحداث مسرحية «حلم ورسالة» الرمزية على أحدَ عشر مشهداً، يقوم ثماني شخصيات بتأدية أدوارها، لكن الشخصية الرئيسية تبقى فكرة الجهل المستبد في بيئة منغلقة على نفسها ومكتفية بقناعاتها الموروثة وبعالمها الخاص البعيد عن أيّ حداثة.
يستهلّ الحفري المشهد الأول بسرير يتمدد عليه الشاب «سالم» يحيط به مجموعة من العميان يحاولون فقأ عينيه ليكون كفيفاً مثلهم! وعندما يمانع ذلك يحاولون إقناعه بالمزايا الحسنة للعمى (نحن نبصر بقلوبنا وأرواحنا وحواسنا… نريدك أن تبصر الحياة بطريقة مختلفة… الحياة في وادينا جميلة وممتعة. وستعتاد عليها مع مرور الأيام…) فيقترح «سالم» بعد يأس: (سأعتاد، صدقوني، ولكن اتركوا لي عيناً واحدة…) ويحال «سالم» بحكمة «أبو فتون» إلى أن يبتّ صاحب المقام العالي بالموافقة على اقتراح «سالم» الذي يقع في غرام «فتون» الكفيفة التي باتت ترى جمالها بعينيه. والتي سعت بدورها للحفاظ على حبهما واقناعه بأن يكون كفيفاً أيضاً! ويفشل من الفرار من «أرض العميان»! لأن «من يسقط في وادي العميان لا يمكن أن يخرج أبداً» لأن الصخور العالية تحيطها من كلّ الجهات.
وتنتهي المسرحية كما بدأت في المشهد الأول «سالم ينام على السرير» لكن في المنزل! وأم سالم توقظه مذعوراً وتسأله: «متى ستتخلص من هذه الكوابيس اللعينة؟» لكن النهاية الصادمة عندما طرق باب المنزل رجال عميان واقتحموا المنزل «وتحلّقوا حول سرير سالم وعلى ملامحهم تبدو علائم الجدية والغضب» فيقول سالم: «أرجوكم لا تقتربوا مني».
ومع أن الكاتب أجاد بناء حبكتها على حامل موضوعي بعلاقة حبّ عذري، جمعَت الشاب «سالم» و «فتون»، جمعهما الكاتب بحوار رخيم بفردات بسيطة إلاّ أنها مُحملّة بصدق العواطف. واستطاع الكاتب أن يبني الحكاية بأسلوب شيق يحبس أنفاس المتلقي الذي شارك الكاتب بانتظار حلّ عُقد الحبكات الصغيرة المتكررة بين اليأس والأمل. ليفاجأ القارئ في نهاية المسرحية الصادمة، بأن علاقة هذا الحبّ العذري لم يكن سوى (حلم)؛ إن لم يكن كابوساً إذا تبيّن المتلقي قناعات أهالي هذا المجتمع الذي تدور فيه الأحداث وتشبثهم بعادات وتقاليد الأجداد الأولين العميان.
إن فكرة هذه المسرحية هي «رسالة» موجهة للمجتمع المحنط بقناعات منقرضة! وقد تُحيل القارئ إلى استحضار موقف أغلب نُخب مفكرينا الرافضين لفكرة العولمة التي اجتاحت العالم لخطورتها على كافة المجتمعات. وتهديدها الحقيقي الكبير لفكرة الهويات الوطنية. لكن المسرحية تستحث هذه النخبة من المفكرين لإعادة النظر في هذا الموقف العدائي للعولمة وعدم الاكتفاء والتسليم بنبذها، وتعداد مساوئها. وتحثهم على العمل الجاد البناء للدخول إلى العولمة والمساهمة فيها أيضاً ولو بنسبة ضئيلة للحدّ من آثارها السلبية على مجتمعاتنا والحفاظ عليها. لابدّ أن يكون لنا دور في هذا السيل الهادر من العولمة.
صاحب الظل الطويل
الليل والقمر هما الشخصيتان الرئيسيتان في هذه المسرحية العاطفية والوجدانية. غلب عليها طابع البوح والاسترسال في مشهد وحيد. أما الشخصية الثالثة «حارس الحديقة» فكانت هي الخيط الذي نتواصل فيه مع الواقع الاجتماعي المعاش، ومع أنها شخصية جدّ ثانوية، ودورها يقتصرعلى جملة واحدة، فهي تلخص وجهة نظر المجتمع اتجاه الحبّ العفيف، عندما قال «حارس الحديقة» في نهاية المسرحية وهو يغادرالمشهد ويترك الليل والقمر ومناجاتهما: « لا شك أن أحداً منكما قد مسّه الجنون، أو ربما كلاكما معاً».
ولكي يُضفي الكاتب صفة الحبّ السامي والرومانسية على هذه المسرحية المفعمة بالعواطف والمشاعر النبيلة ولواعج الحبّ والأشواق الموزعة بين الغيرة واللقاء والفراق… استعان الكاتب بافتتاحية هذه المسرحية بأبيات من الشاعر السوداني حاتم الدابي. كما استعان أيضاً ببعض أبيات من الشعر الغنائي باللهجة المحكية.
ومع أن الحفري لم يحدد الأزمنة لمجرى أحداث المسرحيات الثلاث إلا أن المتلقي يمكن أن يجدها في كلّ زمن حضريّ أو حتى رعويّ، وتصلح لكلّ عصر وحقبة زمنية. فخيال الكاتب الخصب استنبط أحداثها من الواقع الحياتي المعاش، وضمنها إيحاءات رمزية قريبة من المتلقي، ساعده الحوار الخالي من الاغراق في جزالة وتزويق اللغة التي ترهق أذن القارئ. فجاء الحوار سلساً معبراً بلسان شخوصها من غير تصنع ولا تكلّف، حتى أن الكاتب استشهد -على لسان شخوصه-ببعض الكلمات العامية لبعض الأغاني الشائعة باللهجة المصرية أو بلهجة بلاد الشام.
وقد حدد الحفري المكان الذي تجري أحداث هذه المسرحيات بأنه «الأرض»، وحتى في مكابدات مسرحية صاحب الظل الطويل «الحديقة العامة». لأن الأحداث واقعية مع أن الكاتب صاغها بحنكة خياله وتبقى مُعاشة، وقد لا يكون المرء قد عاش تجربتها في مجتمعه إلّا أنه سمع بها أو قرأ عنها في عصرنا الراهن أو الماضي البعيد.

العدد 1213 – 12 – 11 -2024

قد يعجبك ايضا
جديد الكتب والإصدارات