بيان الصفدي محاضراً عن أدونيس (نقلاً عن الثورة)

الملحق الثقافي:

تمثل تجربة الناقد والأديب بيان الصفدي محطة مهمة في المشهد الثقافي العربي، من خلال ما قدمه في الشعر والدراسات النقدية، وهو قامة فكرية مهمة، وجدير بأن يقدم قراءات نقدية في شعر أدونيس، وكان ذلك في اتحاد الكتاب العرب بدمشق، يقول الناقد والأديب بيان الصفدي :


لم يحدث أن أثار شاعرعربي هزة متواصلة في الساحة الشعرية العربية كما فعل أدونيس، فلم تهدأ الجدالات والعواصف النقدية التي تعدَّدت ألوانها بتأثيره، لكنني سأكتفي هنا بما يخص تجربتة الشعرية.
من الواضح أن حياة الشاعر وبداياته وثقافته أكدت فرادته اللافتة، فقد نشأ في بيئة فقيرة محبة للعلم والشعر، فعاش الشاعر طفولة فلاح قاسية وشقية، لأب متفهم حنون وحر، وأم طيبة بسيطة، ومن الفاجع والراسخ ذلك الألم الذي خلفه موت الأب المبكر محترقاً، فترك أثراً لا يُمحى في ذاكرة أدونيس (راجع خالدة سعيد.. البحث عن الجذور. ص92) هذا الأب الذي بكاه في قصيدة (الموت) ومنها:
على بيتنا، كان يشهق صمتٌ ويبكي سكونُ
لأن أبي مات، أجدبَ حقل وماتت سنونو
(قصائد أولى ص35)
أدونيس طفل لم يقتنع بما يقدمه الكُتَّاب من علم، فراح يحلم بالمدرسة العصرية، وحدث أن علم يوماً بزيارة رئيس الجمهورية وقتذاك شكري القوتلي إلى جبلة عام 1944، فقطع عشرات الكيلومترات مشياً وهو ابن الثالثة عشرة من عمره، بقمبازه الملطخ بالوحل، ليلقي قصيدة في مدحه، وبعد صعوبات وعرقلات وقف أمام الجموع والرئيس، وقرأ قصيدته التي يقول فيها لشكري القوتلي:
إذا حُذِفَتْ لامٌ وياءٌ من اسمهِ
بدتْ قوةٌ لا يُستطاعُ لها رَدُّ
وبعد إعجاب الرئيس بذلك الفتى قال له:
«هل لديك طلب مني يا بني؟»
فأجابه: أريد أن أتعلم، فقال له: سنعلمك على حسابنا.
وهذا ما كان، فالتحق بمدرسة اللاييك في طرطوس، وسريعاً برز أدونيس طالباً متفوقاً ومنخرطاً في النشاط ضد الاحتلال الفرنسي وقتها، فتعرَّض للملاحقة والفصل من المدرسة أحياناً.
نضجت شاعريته مبكراً بسبب الموهبة والاطلاع على أمَّات الدواوين العربية، وخاصة الشعر الصوفي، مع معرفة أولية بشعراء فرنسيين كبودلير وهيجو ورامبو وهنري ميشو وبول فاليري، فقد أفاد من الفرنسية التي تعلمها في المدرسة، ثم نمَّى ذاتياً حصيلته منها، وهذا ما أكسب بداياته المتانة الملموسة في البناء الشعري وروح الانفتاح والتجديد، ثم انتقل إلى اللاذقية عام 1947، فنال الشهادة الثانوية عام 1949.
بعد تردِّد أكثر من صحيفة في نشر قصائده باسمه الصريح، أرسل قصائد له بتوقيعٍ اختاره من خلال اطلاعه على أسطورة أدونيس، ففوجىء بنشرها، وهكذا ثبت على اسمه الجديد الذي اختاره وهو (أدونيس) إلى الآن.
ومن اللافت أن تكون قصائد الشاعر الأربع الأولى قد نشرت في مجلة (القيثارة) المهمة التي صدرت في اللاذقية عامي 1946/1948، وعملت على احتضان نهضة شعرية حديثة، وضمَّت خيرة الشعراء وقتها، خاصة من رواد التجديد كنديم محمد وعلي ناصر وأورخان ميسر ونزار قباني ويوسف الخال وكمال فوزي الشرابي وفاتح المدرس، ومما نشره فيها نلمح بذرة الجدة في شعره، فها هو يكتب في العدد الحادي عشر:
كفرتُ بالشعر، إن كانت زنابقُه
على الهوى وحدَه، تحنو وتنفتقُ
همسُ الجميلةِ أندى ما يصيح به
طَرْفٌ، وأعذبُ ما يأتي به ألقُ
سأعبد امرأةً، أوحتْ محاجرُها
بمَطهرٍ، وانطوى في ثغرها عبَقُ
ومضى في تجربته لا يتوقف عن كتابة شعر مختلف، فقد ظل يعمل على مشروع لم يتخلَّ عنه حتى الآن، ركائزه الهدم والبناء، الزلزلة والتأسيس، المحو والكتابة، إضافة إلى الجرأة والجنون والاختلاف والتحدِّي والحرية.
فصب اهتمامَه منذ البداية على علاقات جديدة بين الكلمات، وعلى آفاق لا محدودة في التكوين الشعري، وعلى علاقة صوفية مع القصيدة التي تنتمي إلى فرادة في النظر إلى الجسد والموت والتاريخ والمستقبل، الأمر الذي جعله من الشعراء الأكثر جذرية وإخلاصاً في مشروعهم الشعري.
وفي الوقت الذي أمضى فيه أكثر مجايليه أو القريبين من جيله قسماً من مراحلهم الشعرية متذبذبين بين حداثة وتقليد، وبين ثورة وخضوع، ظل شعره خارجاً عن السرب، مشدوداً إلى طموح عارم ليقول المختلف والبعيد النائي في اللغة والفكرة، فكانت الصوفية التي رافقته منذ الطفولة مرجعَه الدائم، وهي الجذر الذي تتفرَّع عنه عوالمه الشعرية.
إن من الأمانة للتاريخ الأدبي أن نسلِّم أن أدونيس هو من أهم الذين عزَّزوا الأشكال الفنية للقصيدة العربية الحديثة، وبعده جاء أكثر شعراء الحداثة طليعية كأنسي الحاج ومحمود درويش وسعدي يوسف، لذا فوصف الشاعر علي الجندي لأدونيس بأنه «مهندس القصيدة العربية الحديثة» خير تعبير عن تلك المكانة وذلك الدور المؤسِّس.
****
عندما أطلَّ أدونيس شعرياً حمل معه بذور التميز، وكان شعره العمودي، أو المتنوِّع الأوزان متأثراً ببعض الشعراء الرومانسيين كأنور العطار ونزار قباني ونديم محمد، وحتى بالكلاسيكيين الجدد وفي طليعتهم: بدوي الجبل وعمر أبو ريشة، وبعدد من أدباء المهجر كجبران خليل جبران، تقوده رغبة التطوير في الصورة والمفردة والبناء والرؤيا الشعرية، كل ذلك بتأثير واضح من الشعر الصوفي الذي تشرَّب الكثير منه، منذ طفولته، مع ما رافق ذلك من حماسة انتمائه المبكِّر للقوميين السوريين، ثم انفصاله عنهم بعد سنوات قليلة لإحساسه أنه خارج كل أيديولوجيا
حزبية من ناحية، ولانتمائه الحميم لشعريته وحريتها.
وعزَّز هذه الشاعرية اطلاع عميق على اللغة العربية، ومعرفته بأسرارها، وهو ملمح يطبع شعره بالمتانة والعمق معاً، لذا لم ينحرف عن إيمانه العميق بلغته، في حين لم يلبث كثيرون ممن أحاطوا به أن حاولوا النيل من الفصحى، أو قلَّلوا من شأن تراثها الأدبي، فيقول مؤكداً عشقه لها: «حتى لو افترضنا أن اللغة العربية لغة ميتة فأنا سأكتب إلى أن أموت بهذه اللغة» (حوار مع أدونيس ص80)
وحتى عندما يكتب الشعر في قالب عمودي، فإنه يحوِّله إلى حديث بعلاقات لغته المدهشة، وآفاقها الواسعة، ففي قصيدته الطويلة (قالت الأرض) -وهي عنوان مجموعته الأولى التي صدرت عام 1954، ولم تضم أكثرها أعماله الكاملة لأنه عدَّها بداية لا أكثر- نقرأ:
قالت الأرض في جذوريَ آبادُ
حنين، وكلُّ نبضي سؤالُ
بيَ جوعٌ إلى الجمال، ومن صدريَ
كان الهوى، وكان الجمالُ

أبداً، نخلقُ الوجودَ ونعطيه
حياةٌ، كما نرى ونشاءُ
قيلَ: كنّا، فاخضرَّ من شَغَفٍ
حلْمُ الليالي، واخضرّت الأشياءُ
(قصائد أولى ص7)
هذا المسعى الفني الإبداعي يجول في نتاجاته الأولى، ونلمح فيها الركائز الأساسية لشعر أدونيس اللاحق: الحس الصوفي بالأشياء، والرفض، والتجدد، والحيرة، والفجائعية، والتأمل، والتمرُّد، والقلق، والحسية، والحميمية، والنرجسية، والغنائية، والدرامية، والتفرُّد:
كلّ طريقي سفَرٌ دائِمٌ
وفي المجاهيل مواعيدي
(1/87)
كغربة الفنِّ
كالمبهم الغُفْلِ وغير الأكيدْ
أولَدُ في كلِّ غدٍ من جديدْ
(قصائد أولى 67)
كأنه أكبر من حالهِ
يعلو ويمتدُّ ولا يرضى
يريد أن يخرج من نفسهِ
ويحضن السماء والأرضا
(1/99)

قد يعجبك ايضا
جديد الكتب والإصدارات