بيان اتحاد الكتاب العرب واتحاد الصحفيين في سورية بمناسبة رحيل الشاعر الكبير سميح القاسم
بيان اتحاد الكتاب العرب واتحاد الصحفيين في سورية
بمناسبة رحيل الشاعر الكبير سميح القاسم
رحل سميح القاسم..
فارس الشعراء وفارس التاريخ، وفارس الوطنية؛ رحل سيد القلاع الثلاث: الشعر، والتاريخ، والوطنية.. بعد معاناة طويلة مع المرض، وبعد رحلة إبداع نادرة المثال والصورة والكمال، وبعد مواقف وطنية وقومية شديدة الصلابة والصلاة في مواجهة الطغاة الصهاينة طوال حياته التي أمضاها بين طريد، ومشرد، ولاجئ، ومعتقل في زنازين العدو الصهيوني.. حتى كاد أن يعرف جميع المعتقلات والسجون الصهيونية من شمال فلسطين إلى جنوبها من بحرها إلى صحرائها!
صاح: “يا عدو الشمس سنقاوم، سنقاوم، سنقاوم”، ورحل تاركاً مدوّنة شعرية تحقّب وحدها لتاريخ العرب والفلسطينيين، وهم يقاومون موجات الغزو والاستعمار المترادفة تترى على البلاد العربية من ساسان، ويونان، ورومان، ومغول، وتتار، وفرنجة، وعثمانيين، وإنكليز، وفرنسيين، وطليان، وأمريكيين وصهاينة..
لقد وعى سميح القاسم أن التاريخ الوطني لا تكتبه إلا القامات الوطنية العالية المخلصة، وأن الهجمات الاستعمارية الغاصبة لا تواجه إلا بالمقاومة، لهذا شكّل، عبر قصائده، ومواقفه الوطنية، وخطبه، ورسائله من جبهة ثقافية مقاومة قادته إلى الزنازين الصهيونية مرات ومرات.
لقد كانت قصائد سميح القاسم أناشيد للوطنية في كل بيت ومدرسة.. وفي الديار الفلسطينية والعربية في آن، مثلما كانت مدعاة لكشف الكراهية والعنصرية الصهيونية التي منعت قصائده من الطباعة والنشر في المدن الفلسطينية، كما منعتها من أن تكون نصوصاً تدرس في مناهج التعليم، ظناً منها أنها بهذا الفعل الناقص تحول بين الشاعر سميح القاسم وجماهيره، وخاب ظنها لأن قصائده انتشرت بين الناس كالهواء، فصارت أغاني الناس في الحقول، والمراعي، والغدران، والأعراس، والاجتماعات، مثلما انتشرت في البلاد العربية وصارت ركناً أساسياً من أركان مناهج التعليم في المدارس والجامعات، بعدما هربت إلى خارج الأراضي الفلسطينية..
رحل صاحب رواية (الصورة الأخيرة في الألبوم) التي هزت الكيان الصهيوني برمته حين وضعته في مواجهة صورته الدموية المتوحشة وأمام مرآته الدموية المتوحشة، مثلما هزت المجتمع العسكري الصهيوني الذي تغوّل وتوّحش وتفنن بأساليب القتل والبطش والتدمير والاعتقال والطرد والملاحقة للمواطنين الفلسطينيين الثابتين على العقيدة والوطنية، المنادين بـ (فلسطين عربية)!
رحل سميح القاسم سيد المهرجانات الوطنية، وقائد التظاهرات الداعية إلى المقاومة من النقب إلى الجولان، ومن الخالصة إلى الناصرة، ومن أريحا إلى القدس إلى عسقلان.
رحل سميح القاسم صاحب الثقافة الموسوعية، والإبداع الخضيل، والحوارات العقلانية الهادئة، العارف لتفاصيل تفاصيل التاريخ، الشاعر صاحب الحس السليم الذي وضع يديه الاثنتين على جوهر العقيدة الصهيونية الموغلة في الدم منذ نشأتها، ومنذ كينوناتها الجنينية.
رحل سميح القاسم المثقف بقصيدته، الوطني بسيرورته وصيرورته، المؤرخ لحقبة النضال الفلسطيني بقراها، ومدنها، وأوديتها، ومدارسها، ومشافيها، وساحاتها، وبيادرها، وبيوتها وشهدائها، وجرحاها، وثوراتها المتتاليات تباعاً كالنجوم.
رحل سميح القاسم المنادي بالحفاظ على اللغة والأرض، والتاريخ والسيادة، والناس، والوعي بوصفها تراث الشعب الفلسطيني من أيام كنعان وبعل وعناة وذات الهمة والظاهر بيبرس وصلاح الدين الأيوبي وعبد القادر الحسيني وعز الدين القسام، وأحمد ياسين إلى محمد أبو خضير الفتى الفلسطيني الذي أحرقه الصهاينة حيّاً في مشهد لم تعرفه وحوش النازية في الغرب، ولا وحوش الغابات في أفريقيا.
رحل سميح القاسم الشاعر، والمؤرخ، والمقاوم، والوطني، وابن الأرض الذي دافع بصدره وذراعيه، وأمام باب داره.. كي لا يأخذ الصهاينة ولده (كرمل) سوقاً للخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، قال لهم: إياكم وهذه الفعلة، سأقتله هنا، وأمام العالم جميعاً إن أخذتموه عنوةً! أنا لا أسمح لابني أن يحمل السلاح الإسرائيلي المجرم ليقتل به أهله في الضفة وقطاع غزة والقدس الشريف، لن أسمح لكم بأن تعلموه مهنة القتل والدم على عتبات المسجد الأقصى، وأدراج كنيسة القيامة، وفي مداخل الحرم الإبراهيمي الشريف، أو في ساحة كنيسة المهد!
بذلك العنفوان، وبتلك الإرادة الوطنية الفذة حال سميح القاسم بين الصهاينة ورغباتهم الدموية، فمنعهم من أخذ ابنه بالقوة العسكرية إلى مستنقع الدم والبطش الإسرائيلي، وبذلك شق سميح القاسم نهجاً وطنياً جديداً… سارت عليه البيوت الفلسطينية الواقعة تحت نير الاحتلال جميعاً، فما عاد أبناؤها يخدمون في الجيش الإسرائيلي أيّاً كانت الضغوطات والتهديدات والممارسات الهمجية الصهيونية بحقهم حق أبنائهم..
(إلى آخر نبض في عروقي سأقاوم سأقاوم سأقاوم)… هذا ما قاله سميح القاسم قبل الرحيل، صاحب (يا عدو الشمس)، وهو يرى بيرق الكرامة الوطنية مرفوعاً فوق ذرا غزة المقاومة، وفوق أكثر من مدينة وقرية سورية بعدما هزم شعبها الأبي الحر المؤامرة، بوحدته الوطنية، ووعيه التاريخي، وإيمانه المطلق بالسيادة السورية أرضاً، وبشراً، وتاريخاً، ومستقبلاً واحداً غير قابل للتجزئة أو القسمة.
ولعله، وقد صارع المرض العضال طويلاً، لم يطبق عينيه إلا عندما رأى بما لا يقبل الشك أن المقاومة تكبر بأهل فلسطين صغاراً وكباراً ورجالاً ونساءً، وأنها هي الدرب الوحيد لتحرير فلسطين، وأن ثقافة المقاومة هي الثقافة الوحيدة التي تخلص الواقع الفلسطيني والعربي من كل المشكلات التي راكمتها السياسات الخاطئة والدروب المغلقة.
رحل الشاعر سميح القاسم الكبير في وطنيته، وشعره، وثقافته، ومواقفه… رحل عن دنيانا في 19/8/2014م.
رحل الرجل ابن الرامة الذي ظل، وهو على فراش المرض… وحتى آخر نبض في عروقه يقاوم ويقاوم ويقاوم..
إننا في اتحاد الكتّاب العرب واتحاد الصحفيين في سورية، وباسم كل المثقفين الأحرار في الوطن العربي والعالم نتقدم بخالص العزاء لأسرة فقيدنا الكبير الشاعر سميح القاسم.. عزاء من أرض الشام في دمشق إلى أرض الشام في الناصرة… معلنين أن الشاعر سميح القاسم وفّى بشعره حق بلاده عليه، وأن الوطني سميح القاسم كتب بدمه أسطر الوطنية العاشقة للمجد والكبرياء، وأن العارف بالتاريخ سميح القاسم… سطّر أحداث التاريخ الحديث وحادثاته ملاحم تضاف إلى ملاحم حطين، واليرموك، وعين جالوت، وتل الفخار، والكرامة، وتشرين التحرير، وأن سميح القاسم المنادي: (بلادي.. بلادي) أكمل دورته، دورة النبل، والكفاح، والكبرياء، والشرف..
هنيئاً لأهل الشعر بدور الشعر وقوته الإبداعية، وهنيئاً لأهل الوطنية والمقاومة بدور سميح القاسم الوطني المقاوم، وهنيئاً لأهل الكبرياء والعزة.. فهذا الكبير سميح القاسم يرحل سيداً من سادة الكبرياء والعزة.
دمشق 20/8/2014
عدد القراءات : 8607