اللغةُ سلاحُ الشاعر وهي التي تجعله يشعر بأنّه موجودٌ.. الشاعر «طلال الغوار»: دمشق أختُ بغداد وكلتاهما تمثّلُ فترات طويلة ومضيئة في التاريخ العربيّ (نقلاً عن تشرين)
تشرين- حوار: ثناء عليان:
ينتمي الشاعر العراقي طلال الغوار إلى جيل السبعينيات من القرن الماضي، ويعد من الأسماء البارزة في الشعر العراقي، أحب اللغة العربية لدرجة العشق، واستلهم إبداعه من واقع الحياة.. صدرت له عشرة كتب تنوعت بين الشعر والسرد وهي: «الخروج من الأسماء، الأشجار تحلق عالياً، السماء تتفتح في أصابعي، حرريني من قبضتك، احتفاء بصباحات شاغرة، أولّ الحب… أول المعنى، انثيالات، في الشعر والطفولة والحياة، شموس في الظل، اسمّي جرحي شجرة، نداء لصباحات بعيدة»، كما كتب المقالة الصحفية، والانطباع النقدي الأدبي، وعمل مسؤولاً عن الصفحة الثقافية في جريدة الإصلاح، كما كان رئيس تحرير جريدة الوحدة العراقية.
عن مجمل هذا النتاج الثري للشاعر طلال الغوار كان لـ «تشرين» هذا الحوار، وإليكم التفاصيلَ:
* كيف تشكلت الثقافة الإبداعية لديك؟ ما منابعها؟ ما المصادر والمؤلفات التي تربَّى عليها حسُّك الإبداعي، ونما بها شغفك بهذا اللون من الشعر الحداثي؟
ولدت في تكريت ضمن عائلة لها اهتماماتها الأدبية والثقافية، وكان والدي محباً ومهتماً بقضايا الثقافة والأدب وتحديداً الشعر والتاريخ, فضلاً عن ذلك أنه كان شاعراً, وفتحت عيوني على مقتنياته من الكتب المتنوعة، أذكر منها كتاب المعلّقات والمتنبي وديوان الرصافي والجواهري وغيرها.
وكنت مشغوفاً بكتاب (الأجنحة المتكسرة) لجبران خليل جبران الذي وجدته ضمن الكتب مع كتاب (دمعة وابتسامة)، وأذكر أني أعدت قراءته أكثر من مرّة في مرحلة الدراسة المتوسطة بعد انتقالنا من القرية الى مدينة تكريت، وقد كان له تأثير كبير حينما بدأت أكتب الخواطر على غراره ومقلداً له, وقد دلّني والدي على كتاب فن التقطيع الشعري للرصافي الموجود ضمن كتبه، وتعلمت منه بصعوبة بعض الأوزان الشعرية, وقد نما في داخلي هاجس القراءة والمتابعة فقرأت بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وشعراء المهجر وكذلك نزار قباني، وبعدها قرأت بعض دواوين أدونيس وبعض الروايات العربية والأجنبية، وكنت أقتني الكتب والمجلات التي تستهويني من مكتبة شاكر الويس، وهي المكتبة الوحيدة في مدينة تكريت كمجلة الهلال المصرية ومجلة الآداب اللبنانية ومجلة المعرفة السورية ومجلة الأقلام العراقية ومجلة دراسات عربية ومجلة الموقف الأدبي، وأتابع ما ينشر للشعراء آنذاك, وخصوصاً الشعراء المحدثين, وأول قصيدة كتبتها كانت من الشعر العمودي ونشرتها في مجلة صوت الطلبة عام 1971 ثم أعقبتها بقصائد تفعيلة نشرت في المجلة نفسها وفي مجلة الطليعة الأدبية حتى أصبحت القراءة زادي اليومي ليس فقط الكتب الأدبية لأدباء عرب من الشعراء والروائيين، وإنما قرأت الكتب الفكرية والفلسفية وعن المتصوفة والكتب التاريخية، وقرأت عن الاتجاهات الفكرية في التاريخ العربي، وكارل ماركس وجان بول سارتر وألبير كامو وأرسطوطاليس وأفلاطون .
* يقال إن الشعر، هو أرقى حالة تكثيفية للمشاعر الإنسانية، من هذا المنطلق، هل يعدّ الشاعر طلال الغوار ديوانه (القصيدة تبحث عن زمن آخر) ذروة تطوره الشعري في هذا السياق، أعني: التكثيف؟
الشعر حفر في اللغة، وهذا ما حاولت الاشتغال عليه في هذه المجموعة بشكلٍ أعمق من المجاميع السابقة بغاية الخروج من معيارية اللغة، ومن نظام سياقاتها المألوفة أي الخروج من جاهزيتها, فاللغة الشعرية هي ليست لغة توصيل فحسب، وإنما لابد من أن يكون فيها ما يوحي ويشير ويحاور حيث الانزياح, لغة تنحرف عن نظامها التقليدي, لتغدو محملة بالمعاني والدلالات، وهنا يتجلى التكثيف عبر المغامرة الفنية على مستوى الرؤية واللغة باستخدامها الخاص, فمن دون هذه المغامرة تفقد الكلمات خصوبتها وتصبح عاقراً, فهي عند الشاعر يجب أن تكون محملة بهذه الكثافة من مشاعره وأحلامه وأفراحه وأحزانه, وحتى جنونه, فالكلمات الخائفة لا تقول إلا نفسها ولا فعل لها في الحياة, وتالياً لا تجد قارئاً لها.
لم تكن مجموعتي الشعرية (القصيدة تبحث عن زمن آخر) هي ذروة تطوري الشعري في مجال هذا التكثيف, فالشعر عندي كتابة تجريبية، وعليها أن تتسم بالمغايرة وتحقق الحالة الافتراقية عن سابقاتها, وتجربتي الشعرية تبقى منفتحة لكلّ ما هو جديد ومغاير ومعبّر عن الحياة والإنسان بأقصى حالات التعبير في اللغة.
* بعد عشر مجموعات شعرية، ما الذي دفع شاعراً ذا تجربة عميقة ومديدة مثلك، إلى التأليف والإصدار في مجال غير الشعر، وأعني بذلك كتابك الجديد (نداء لصباحات بعيدة)؟
كتاب (نداء لصباحات بعيدة) يكاد تتداخل فيه الأجناس الأدبية جميعها من قصة ورواية وشعر وخاطرة ..إلخ، ولكنه هو كتاب سردي وتجربة جديدة لي في الكتابة وكتابة السيرة تحديداً, فحاولت أن أختزل صفحات كثيرة في الذاكرة، وأوثقها بدافع الحنين والاستذكار وبطريقة السرد, فتحولت إلى نص معرفي شاعري وجمالي, ولأني وجدت في السرد تتزحزح وتتسع تخوم التعبير, ليس كما في الشعر, تخوم السرد تتسع لسيرة هذا الحنين في زمن ماضٍ مدهش وسيرة الطفولة في القرية التي فيها كل جميل, سيرة الأمكنة والاحتفاء بها والتي نعشقها كما نعشق الأحلام, سيرة الحب والمواقف والأحداث التي مررنا فيها على المستوى الخاص أو على المستوى العام في بلادنا, ورغم أن الكتاب سردي، ولكنه كما أجمع عليه أغلب النقاد الذين كتبوا عنه هو سرد بلغة الشعر, فمهما أوغلت كثيراً في السرد كي يستوعب هذه السِير، وما أريد قوله وأخلصت للنثر، فليس ذلك على حساب الشعر.
* (القصيدة تبحث عن زمن آخر)، ديوان شعري لا يهتم فيه (طلال الغوار) إلا بالشعر، وتحولات القصيدة، وعناصرها، ومزاياها، وإشراقاتها، والسؤال: لماذا القصيدة فقط تشغل ديواناً شعرياً بأكمله، علماً بأنك عالجت قضاياها في دواوينك السابقة؟
قد يبدو هكذا، إذ تغدو القصيدة موضوعاً لأغلب قصائد هذا الديوان (القصيدة تبحث عن زمن آخر)، فأجدني أتحدّث مع القصيدة، وأتحاور معها وأسألها, وهذا ما يكشف تماهي الشعر مع الذات, وعن عمق الآصرة التي تشدني بقوة إلى الوجدان والأخيلة, إذ تصبح القصيدة هي وحدها ما أثق به، لأنها مجالي الرحب الذي أطلق في فضائه الرؤى والأفكار من دون تردّد أو خوف.. والدافع الآخر أيضاً هو أني أرى كتابة القصيدة على وتيرة واحده لا تحمل هاجس التغيير في كلّ مستوياتها قد تفسد الشعر وتفقد الكثير من عناصر الشعرية، وتالياً تفقد دهشتها وقدرتها على الاكتشاف وفعلها في الحياة, فالقصيدة لا تفضح خفايا العالم وتكتشف المجهول فيه إلا حينما تستخدم لغة تكشف عن خفايا اللغة نفسها وقدراتها, فبقدر ما تبتعد اللغة عن نفسها وعن معانيها ودلالاتها المعروفة، فإنها تزداد قدرة واقتراباً مما تريد أن تكشف وتفصح عنه, فالشاعر سلاحه اللغة، وهي التي تجعله يشعر بأنّه موجود إذا استخدمها بتفرد.. وأخيراً إذا كانت القصيدة موضوعاً لقصائد الديوان؛ فإني أنفذ من خلالها إلى موضوعات أخرى كالحب والحرب والمرأة والوطن وأحلام وجراح الإنسان العربي.
* يقف الشعراء موقفاً حذراً على الأغلب حيال النقد، فقد يشكك في قيمة أعمالهم الفنية، وقد يدفعهم إلى المراجعة الذاتية لتجاربهم، كيف تتعامل مع الحراك النقدي، وهل هو مخيّب للآمال حالياً؟
ربما هناك البعض يكون حذراً من النقد, وقد يعود ذلك إلى الإحساس بأن النص الذي يكتبه لم يعد نصاً مستوفياً لشرطه الفني والجمالي وثمة هبوط في مستوياته الأخرى, أو يعود ذلك الى التشكيك في إمكانات الناقد ومدى تمتعه برؤى وأفكار نقديه تؤهله كي يسبر غور النص.
أما بالنسبة لي، فقد كتب عني عدد كبير من النقاد والأدباء العرب والعراقيين، ومنهم نقاد وأدباء كبار ومعروفون في الساحة العربية، وأمر طبيعي أن تكون هناك مستويات مختلفة بين النقاد وطريقة ومنهج تعاملهم مع النص, وأنا قليل المتابعة للنقد والنقاد وإشكالاتهم مع الأدباء بقدر ما أعوّل على النص الأدبي .
* أقيمَ لك مؤخراً حفل توقيع في المنتدى الثقافي العراقي في بدمشق لهذا الديوان الجميل؟ لماذا دمشق؟ ما موقعها لديك؟
لم يكن حفل التوقيع هذا هو الوحيد في دمشق، فقد سبق أن أقيم حفل توقيع في فرع دمشق لاتحاد الكتاب العرب مرتين لمناسبة صدور ديواني (أسمّي جرحي شجرة)، وكتابي الآخر (انثيالات) قبل سنوات.. أما حفل توقيع ديواني (القصيدة تبحث عن زمن آخر) والذي أقيم في المنتدى الثقافي العراقي بدمشق, وسؤالك لماذا في دمشق, فالديوان طبع بدمشق, ودمشق لها وقع جميل وكبير في نفسي, فقد تجذر حبها منذ الطفولة, وطالما أنشدنا لها القصائد في الاصطفاف الصباحي في المدرسة, لشعراء سوريين كعمر أبو ريشة وسليمان العيسى وغيرهما, فهي أخت بغداد وكلتاهما تمثلّ فترات طويلة ومضيئة في التاريخ العربي, كذلك وجود المنتدى الثقافي العراقي بدمشق وإقامة حفل التوقيع فيه له دلالة كبيرة تؤكد عمق الانتماء العربي والهوية الواحدة للقطرين الشقيقين وعمق الصلة بينهما ووحدة الثقافة العربية فيهما.
* في ديوان (القصيدة تبحث عن زمن آخر) علاقة وشيجة بين عمق الفكرة وإشراقة المعنى من جهة، وبين سهولة التعبير وبساطة اللغة، وهذه لعبة الكبار؟ لكن، كيف هو السبيل للعب كما الكبار: لغة بسيطة وفكرة عميقة؟
في ديواني (القصيدة تبحث عن زمن آخر) اقتربت كثيراً من أسلوب السهل الممتنع, الذي في حقيقته ليس سهلاً, إنه أمرٌ صعب حينما تذّوب الواقع في المخيّلة ويختمر ثم يخرج عالماً من الأحلام والصور، فأقرأ هذا العالم شعراً بعيداً عن الغموض الذي يشبه الكهف المعتم، حيث يختنق الشعر.
وهنا لا أعني بالسهل الممتنع أن تجعل النص يحمل في دواخله قدرة التوصيل مع المتلقي فحسب، وإنما قدرة استخدام المفردات المتداولة ومن المهمل اليومي وتضعها في سياق لغوي جديد وعلاقات جديدة في مفرداته خارجة عن منطق الأشياء, لتفاجئ المتلقي بها، وكأنه يقرؤها أول مرّة، وتثير دهشته حيث إشراقة المعنى كما تسميها أنتِ في صور شعرية متولدة عن هذه التراكيب والسياقات غير المألوفة والمكتنزة بالرؤى والأفكار.
* أنت صديق لشريحة واسعة من المثقفين السوريين، بمن تأثرتَ من ناحية الصداقة، ومن ناحية التجربة الشعرية من شعراء سورية؟
لديّ أصدقاء كثر في سورية، وأغلبهم من الأدباء والكتاب والإعلاميين, وقد نشأت هذه الصداقة في بادئ الأمر كعلاقة بين أدباء ومثقفين يجمعنا الاهتمام الثقافي والأدبي حتى تعمقت بمرور الأيام، وتطورت حتى أصبحت صداقة متينة قائمة على المحبة والاحترام, ولهذه الصداقة مع الأدباء تحديداً انعكاساتها الإيجابية في مجال الاهتمام الثقافي والأدبي، إذ كنا نتبادل الإهداءات لإصداراتنا من الكتب, ما حدا بعضهم على الكتابة عني وعن كتاباتي.
* كلمة أخيرة تُوصي بها أدباء اليوم، بخاصة الشعراء الشباب؟
** كما ذكرت سابقاً، إن تجربتي الأدبية تمتدُّ إلى عشرات السنين، ولكني أجد نفسي وكأني في أول الطريق، وبحاجةٍ للتزود المعرفي والثقافي المتنوع الذي يغني هذه التجربة, ولهذا أرى أن الشعراء الشباب يجب أن تتسع قراءاتهم للتجارب الأدبية والفكرية المتميزة بدءاً من التراث العربي، ومتابعة الكتابات الإبداعية الرصينة كي تنمو وتتطور الحساسية المعرفية والفنية لديهم، ويتمكنوا من أدواتهم وخصوصاً اللغة والقدرة على استنفار الطاقة الاستعارية فيها بما يحقق قيماً فنية وجمالية، وبما يغني مشروعهم الشعري, وألا يأخذهم الغرور لمجرد أنهم نشروا قصيدة في مجلة أو أصدروا مجموعة شعرية، فقد يأخذهم هذا الغرور إلى مناطق خارج الإبداع, وألا يتوهموا ببعض الأسماء التي أفرزتها فوضى النشر في عموم الساحة الثقافية العربية سواء في الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي, أو بالألقاب والجوائز والشهادات الفخرية التي أصبحت حالةً مرضيّة متفشية في المشهد الثقافي العربي.