«الكتاب العرب» بسوريا يناقش قضية النقد الأدبي بين التنظير والتطبيق (نقلاً عن بوابة دار الهلال)
محمد الحمامصي
ناقشت الندوة السنوية لجمعية النقد الأدبي، والتي أقامها فرع اتحاد الكتاب العرب في مدينة اللاذقية بسوريا، قضية النقد الأدبي بين التنظير والتطبيق، وهي إحدى القضايا المحورية التي تشغل النقاد والمبدعين على السواء، خاصة في ظل سيطرة المدارس والتيارات النقدية الغربية على التنظير ومن ثم تطبيق مناهجها على النصوص العربية، وشكوى المبدعين من أزمة في متابعة النقاد لإنتاجاتهم الأدبية رواية وشعرا وقصة قصيرة، وإن حدث فإن قراءاتهم التحليلية تذهب إما للانطباعية أو للتنظير التي لا يقدم رؤية حقيقية للنص الأدبي.
جاء الندوة في جلستين حواريتين، أدار الجلسة الأولى الناقد د.محمد بصل، وشارك فيها كل من د.غسان غنيم، د.أحمد علي محمد، د.ياسين فاعور، د.غيثاء قادرة، حيث أشار د.غسان غنيم في المحور الأول إلى مشكلات النقد وآلياته موضحا إن النقد العربي الحديث الذي يؤرخ له منذ عشرينات القرن العشرين قد أعلن نوعاً من القطعية مع آليات النقد العربي القديم وأساليبه المعتمدة على النقد اللغوي والبلاغي، وقد ابتدأت هذه القطيعة على كتاب “الديوان” للعقاد والمازني، ثم مع كتاب “في الشعر الجاهلي” لطه حسين و”الغربال” لميخائيل نعيمة حيث اتجه نحو المناهج النقدية الحديثة آنذاك. وقد حاول النقد العربي آنذاك أن يرسي قواعد متينة له على أساس يقوم في جوهره على الانفتاح على الغرب، مصدراً للمعرفة و للتنظير الأدبي، فالتنظير النقدي عريق حضوره في الحضارة الغربية ويمكن أن يعود إلى أيام اليونانيين القدماء.
توقف د.غنيم عند مسألة المناهج النقدية الحديثة، وقال أنها أدوات إجرائية مهمة في التعامل مع النصوص الأدبية لكن يجب ألا ننسى أبداً أن هذه النظريات والمناهج والأسس بنت سياق فلسفي وحضاري ومعرفي لا ينفصم عن سياق حياة منتجيها وعن نسقهم المعرفي والحضاري واستيراد مثل هذه النظريات لتطبيقها تطبيقاً تاماً على إنتاجنا الأدبي قد لا يتوافق مع السياق المعرفي والحضاري والتاريخي لدينا.
وتناول د.أحمد علي محمد في المحور الثاني من الندوة أدب الناشئة مؤكداً أن الأدب العربي الحديث لا يقدم للناشئةِ ثقافةً تنسجم مع الحضارة العلمية المعاصرة، على النحو الذي تقدمه الآدابُ العالمية، فالناشئ مولعٌ بالاكتشافات العلمية والأفكار الجديدة، وهو بحاجة ماسة لثقافة تعزز لديه التفكير العلمي، ففي الدول المتقدمة كأمريكا وفرنسا وألمانيا واليابان يقبل الشبابُ على قراءة أدب الخيال العلمي، لأنه يلبي النزوع إلى الاكتشافات المذهلة والأفكار العبقرية، في حين يمعن الأدب العربي الذي يقدم للصغار في ترسيخ الأفكار المتخلفة والسلوكيات المندثرة، ظنا من الكتّاب أنّهم يغرسون في النفوسِ القيمَ الاجتماعيةَ والأخلاقيةَ، وهذا لم يعد ضمنَ مجالات اهتمام الناشئة بطبيعة الحال.
وتوقف د.ياسين فاعور مع القصة القصيرة في محافظة اللاذقية، محللا ست عشرة مجموعة قصصية لست مبدعات، ولعشرة مبدعين، لافتا إلى أن موضوعات قصص المجموعات تتناول الإنسان في علاقاته مع نفسه ومع الآخرين وصراع هذا الإنسان من أجل تحقيق ذاته ووجوده في ظل صعوبات الحياة، ويبدو ذلك جلياً في قصص المجموعات جميعها بأشكال متعددة وبأساليب متنوعة.
وأضاف إن “قصص المجموعات تصف الواقع بكل ما فيه من آلام ومصاعب وشقاء وتلعب الذاكرة دوراً إيجابياً في مدّ القاص بصور تمتد من الماضي إلى الحاضر “الفلاش باك” ويبدو ذلك في قصص مجموعة “سهرة على صديق” للقاصة أمينة البارودي ومجموعة “نهاية الدروب المغلقة” للقاص صالح سميا ومجموعة “قبر العبد” للقاص سمير عامودي ومجموعة “يباس يفتقر المطر” للقاص شادي قيس نصير التي تعود بالذاكرة إلى تاريخ هذه المدينة وتذكرنا بالإله بعل وآلهة أوغاريت وتطوف شاطئ البحر بصخوره ورماله وأصدافه، ومجموعة “تفاصيل أخرى للعشق” للقاصة أنيسة عبود التي امتدت أحداث قصصها على مساحة الشاطئ والسهل والجبل بأشجاره وأزهاره ونسائمه ومزروعاته وحياة أهل هذه البيئة ربطاً بين الماضي والحاضر.
وجاءت مداخلة د.غيثاء قادرة عن مفهوم النقد، حيث لفتت إلى أن الخطابَ النقديَّ العربي الحديث مر بثلاث مراحل أساسية تميزت كل مرحلة بتوجهاتها النقدية والمنهجية الخاصة: الأولى مرحلة سيطرة المناهج السياقية: كالمنهج الاجتماعي، المنهج التاريخي، المنهج النفسي، الأسطوري والسلطة فيها للمؤلف. والثانية مرحلة سيطرة المناهج النسقية: وتشمل المنهج البنيوي، والأسلوبي، والسيميائي، والتفكيكي والسلطة فيها للنص. والثالثة مرحلة مناهج ما بعد النص: وتشمل نظرية القراءة وجمالية التلقي، والسلطة فيها للقارئ.
ورأت أن النقد الثقافي يمكن أن يعد بديلا عن النقد الأدبي بعد أن فقد هذا النقد وظيفته، حينما بلغ حد التشبع من جهة ولم يعد قادراً على كشف الأنساق، وقد كان همه منصباً على جماليات النصوص وليس على ما وراء ذلك من أنساق مضمرة؛ ولذا يمكن أن تصبح القراءة النقدية في ظلّ التكامل بين النقد الثقافي والنقد الأدبي؛ بديلاً عن النقد أحادي المنهج الذي يسلط نوعًا من التعسف المنهجي والنقدي على الخطاب أو النص، فلكي تتمّ القراءة الصحيحة لابدّ من حضور طرفيها “النص- الناقد” حضورًا حواريًّا تفاعليًّا؛ كما يقول آيزر، ولا يتمّ هذا الحضور إلاّ إذا كان الطرف الأول “النّص” ثريًّا مبتدعًا، وكان الطرف الثاني “الناقد” ملمًّا منفتحًا بـ وعلى كلّ حيثيات النقد ومدارسه النقدية وتفرعاته المنهجية والإيديولوجية أثناء الدراسة، وهذا لا يتأتى إلاّ بالتسلح المستمر بالأدوات والآليات الإجرائية التي تسهم في تفعيل عملية القراءة النقدية وتسهيل تواصل النقد بكلّ المدارس النقدية والاستفادة منها بطريقة تجعل من العملية النقدية مرنة وسلسة.
وشارك في الجلسة الثانية التي أدارها الناقد د.بسام جاموس، شارك فيها كل من د.عاطف البطرس والناقدة رجاء شاهين ود.لميس داود والروائي والناقد نذير جعفر. قال د.عاطف البطرس في مداخلته “المعايير النقدية بين الثبات والتحول “عندما نستمع إلى نص أدبي أو نقرؤه دون تحديد، يذهب ذهن المتلقي إلى فضاءات بعيدة يصعب حصرها، وتحتار مجسات التلقي لديه كيف وبأية طريقة سيتلقى النص، لكن عندما نسمي النص قصة مثلاً، تبدأ عملية التلقي بالبرمجة عن طريق اللاشعور بتحضير الذهن وفق مقومات معروفة تستدعيه الأصول أو العناصر المكونة للقصة، آخذة بالحسبان حرية الكاتب في إضافة أحد هذه العناصر، أو حذفه، أو تبديله، أو تقديمه أو تأخيره. فمثلاً القصة القصيرة تحتاج إلى تكثيف في الحدث، واقتصار في اللغة، ودقة في الوصف واختصار في الحوار إن وجد، لكن كل ذلك لا يمنع من استضافة عنصر من مقومات الشعر، والاستفادة منه في بناء القصة، على أن تبقى القصة قصة، عمادها الحكاية مقدمة بشكل فني، دون أن تتحول إلى خاطرة أو ما يمكن أن نطلق عليه تجاوزاً (قطعة نثرية) تعتمد الشعر. وكثيراً ما يستخدم الشعراء الحكاية في قصائدهم، مستفيدين مما تحمله من قدرة على شد المتلقي والتأثير بعواطفه، ما يعرف نقدياً بـ “تسريد الشعر”، والخشية أن تتحول القصيدة، وهي أحد تجليات الشعر، القصة قصيرة.
وأشار إلى التقارب بين الخاطرة والقصة القصيرة، وقصيدة النثر، قد يؤدي إلى خلط أجناسي بينهما، يلغي الحدود، ويقرب المسافات باتجاه ما يدعى “النص المفتوح”. إن تاريخ الأدب منذ القديم عرف محاولات جادة لاختراق الحدود بين النصوص والدعوة إلى نصوص تتجاوز المتعارف عليه من قواعد الأجناس، لكن الذين حاولوا التنظير والكتابة، كانوا أدباء كبار، عرفوا ومارسوا الكتابة الأدبية ونجحوا في إنتاج أنواع مختلفة من النصوص الأدبية، محافظين على أدبية إنتاجهم، دون التقيد الصارم بحدود الأجناس الأدبية، فبذلك حق لهم أن يتجاوزوا بعد عملية معقدة من التملك المعرفي والفني لكل الأجناس الأدبية السابقة عليهم والمعاصرة لهم. أما أن يأتي من لا خبرة له في الكتابة ومعرفته محدودة في تاريخ الأجناس الأدبية، ويكتب لنا نصاً (مفتوحاً) بحجة التجاوز والتخطي ومغايرة المألوف، فهذا لا يمكن أن يخفى على ذوي البصيرة والخبرة النقدية.
وقال بطرس تبقى مسألة الحدود الفاصلة بين الأجناس مثار بحث واجتهاد، فالنصوص تنتج أنظمتها وتستخلص قوانينها، وهي متبدلة متغيرة دائماً، لكنها في الوقت نفسه تحافظ على ما يحدد ماهيتها وفق صيرورات مفتوحة على التطور والتبدل بعيداً عن الانغلاق والتقوقع. في كل الأجناس الإبداعية ثوابت، تحدد ماهية الجنس الأدبي، وفيه متغيرات دائمة الحدوث، ولعل الجدل بين الثابت والمتحول في الأجناس الأدبية أحد أهم عوامل التجديد والتطور البنيوي فيها، وفق قانون: الثابت التكويني والمتغير البنائي.
أما الناقدة رجاء شاهين، فقد استهلت مداخلتها “النقد والنقد الأدبي” بقولها “لا شك بأننا ومنذ أكثر من نصف قرن ونحن نتعرض لمصطلحات وآليات يجري تداولها بخفة لا تحتمل، وغالباً ما تكون غير واضحة المعالم أو مكتملة المعنى، وأبرز مثال على ذلك تعبير الحداثة. فنحن نظرنا إلى تراثنا نظرة تقديس ووقفنا عندها دون أن تذكر عن نقلة تطورية تستدعي اكتشاف ما لدينا من جواهر، وبقينا نرتع في كسلنا الثقافي والفكري لأنه لا يمكن الإبداع ولا التجديد الفكري من خارج ثقافة الأمة.
وأضافت “ما أحوجنا اليوم إلى الوعي بمصطلح نقد النقد لأننا في مشكلة مع الناقد في اغترابه الثقافي والمعرفي لأنه يكتب لغيره من النقاد ليطلعهم على سبقه في المعرفة، وإذا فكر في التعامل مع النص الإبداعي العربي فهو يريد وضعه في الأوعية والقوالب والطرائق التي أخذها عن الآخرين أي تطبيق الأجنبي على العربي الأمر الذي أدى إلى فشل التعامل مع النص الإبداعي عند كثير من نقاد الحداثة. كما أن تفجر النقدية العربية الجديدة بحركتها وفعلها واندياح موجاتها المتتالية في دراسة الأعمال الأدبية يتطلب ركضاً نقدياً مستجيباً للإبداع المتلاحق ووعياً معرفياً مغايراً في تحليل النصوص الإبداعية. أعود وأكرر وأشدد على الوعي بنقد النقد كخيارٍ نوعي لمفهومي القراءة والتحليل واستجابة لفكر يتجاوز مألوف المصطلح النقدي في دراسته لأعمال ناقد أدبي واتصاله بالمستقبل للهيمنة على المعنى الجوهري للحداثة من خلال مفاهيمه النقدية التي شكَّلت رؤاه التنظيرية، والتي لا بد من وجود أطر نظرية يستند إليها الناقد: رؤى، نظريات، مدارس، منهجيات ليكون السلوك نزوع نحو النتيجة في الحوار والنقاش وعدم التقيد بأقنعة نقدية تصب غالباً في رفض النقد بمفهومه العلمي والخروج عن التخوم المعروفة للقول الإبداعي، حتى لا نترك أي حجَّة للنقاد الذين يراوغون بين التنظيري الذي يكتفي بالنقل والترجمة وبين التطبيقي الذي يرى أن العبرة في التطبيق ومقاربة النص والغوص فيه ليحلق في مداه الفضائي الذي لا يسمح بالتحليق فيه لغير من استضافهم بحريته حتى لا يؤدي الأمر إلى تدجين النقد ونقد النقد أو أي حالة نقدية وإهاضة جناحه وتحويله عند القارئ المحتجز خلف حاجز الغموض والمنتديات الأدبية المؤطرة بتوجهات خاصة.
أوضحت د.لميس داود في مشاركتها المعنونة بـ “القيم الجمالية عند الفلاسفة والنقاد العرب القدماء” أن الجمال يمر بثلاث مراحل مهمة: مادية: ألوان، أصوات، حركات.. تتطابق مع حالة الشعور أو الإحساس أي الشعور بالجمال والاستمتاع به، ومن ثم تقدير الجمال وتذوقه، وهناك عوامل مرتبطة بحالة الفرد النفسية وعوامل أخرى محيطة به “مجتمع، عصر، معتقد”. ثم استعرضت القيم الجمالية عند مجموعة من الفلاسفة والنقاد والشعراء، فالمتنبي لا يرضيه الجمال الشكلي وحده وإنما جوهر الجمال هو الجمال الباطن أو جمال النفس أو الروح أو الفعل، وربط بين الجمال والجلال، كما ربط في ديوانه مظاهر مختلفة لجمال الكائنات في الكون.
أما د. سعد الدين كليب فرأى أن الفكر الجمالي العربي الإسلامي يحدد مفهوم الجليل من خلال الصفات الذاتية للشيء، ومن خلال علاقة تلك الصفات بالإنسان وفي مؤلفات الفارابي مؤلفات مرادفة لمفهوم الجميل كالبهاء والزينة وغيرهما، أما بول فاليري فعرف علم الجمال بأنه علم الحساسية والموقف الاستطيقي هو انتباه وتأمل متعاطف ومنزه عن الغرض.
وختم الروائي والناقد نذير جعفر ختم الندوة بمداخلته “الرواية الجديدة والنقد” مؤكدا أن النقد الروائي العربي عامة ما زال يحاكي المناهج والنظريات النقدية الغربية من واقعية وبنيوية وتفكيكية، وهو لم يتجاوز بعد مرحلة النقل إلى مرحلة المثاقفة والحوار، ويبرز في حركة نقد الرواية اتجاهان: تنظيري وينصب اهتمامه على تجنيس مفهوم الرواية وبيان عناصرها من زمان ومكان وشخصيات وأحداث ورواة، والثاني تطبيقي يدرس مضامينها واتجاهاتها وتقنياتها الفنية، أما الحركة النقدية فتبدو غائبة وغير فاعلة، ولا تستطيع مواكبة النتاج الروائي الضخم، وفيما يتعلق بالرواية الجديدة أشار أ. نذير إلى أن الملحمة /حسب باختين/ ترتبط بالأرستقراطية وتبني عالمها في مناخ أسطوري قديم مكتمل بعيد عن الزمن المعيش، فيما ترتبط الرواية بسواد الشعب، وتنطلق من الزمن الحاضر المشاكس والمجدد والمجرب دائماً، فالملحمة نص ماضوي ثابت، مغلق، والرواية نص مستقبلي مفتوح متحرك.